استشاراتالشبهات

كيف يكون الخلاف رحمة؟

  • السؤال:

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أردت أن أعبر عن عميق حبي وتقديري لكم ودعواتنا لكم بأن يثبتكم الله على الحق ويزيد في علمكم، وأن يكون خالصا لله، وليس لأحد فيه شيء . مولانا الإمام .. هذا الأمر هام لي جدا أن يستوقفك للرد، فلأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس؛ لأن هذا الموضوع أدخل في قلبي الشك، ألا وهو اختلاف آراء الفقهاء من قديم وحديث، والذي حيرني هو أن كل واحد مستند إلى نص أو حديث صحيح، وتجد في البخاري مثلا وقد قرأته عدة أحاديث في الموضوع نفسه وهى على النقيض وتقرأ مثلا حديث عن فلان أن الرسول الكريم ما صلى أبدا قبل العصر، ثم تجد بعد هذا الحديث حديثا آخر مباشرة أن الرسول صلى قبل العصر، وتجد حديثا عن السيدة عائشة أن الرسول ما رأى ربه وتُكذب من قال غير ذلك وغيره كثير جدا جدا، وهذا الذي حيرني.
ثم إن لابن عباس عدة آراء منقولة عنه فى الموضوع نفسه تناقض بعضها وهى على ما أذكر فى الصحيحين وليست من الضعاف، فهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم القول والقول المعاكس؟ أنا لا أتكلم عن الاجتهاد فقط، ولكن عن الأحاديث التي تناقض بعضها بعضا، ثم إن معظم اختلافات الفقهاء مرجعها اختلاف أفهامهم، فلماذا لم يوضح الرسول معنى الأشياء حتى لا نتوه ويسمى الأشياء بمسمياتها التي لا خلاف على معناها؟ إننا يا سيدى نختلف مع بعضنا البعض في كل شيء بدعوى أن اختلاف الفقهاء رحمة، وبدعوى التوسعة ولكن التوسعة شيء واختلافنا في كل شيء مع وجود الدليل مع كل طرف شيء آخر، حتى الجهر بالبسملة أو عدم الجهر يصل إلى أن الصلاة عند أصحاب الرأي الأول باطلة أقول باطلة إذا لم تجهر وكثير وكثير..
مثلا لماذا لم يخبرنا الرسول الكريم معنى القرء بالنسبة للمطلقة؟ وقد ثبت وقوع الطلاق زمن الرسول صلى الله عليه وسلم. …
آسف للإطالة ولكن هذا جزء مما يعتريني من الشكوك، واسأل الله أن يثبتني على دينه وأسألكم الدعاء لأني اقرأ كثيرا، وهذه مشكلتي حيث أجد هذه التناقضات تصادم عقلي وآسف لم أجد لها إجابة في كتاب الشيخ القرضاوي “فتاوى معاصرة” .. وأخيرا تقبلوا تحياتي وأرجو أن تعينني على نفسي بأن تتكرم بالرد على رسالتي.

 

  • الجواب:

أخي الحبيب..
أحب أن نهيئ أنفسنا أولا أن يكون هناك من المعلومات الموجودة عندنا، ونعتبرها ثوابت في عقلنا، يمكن ألا تكون هكذا، فكثير من الناس ينظرون إلى الاختلاف بنوع من التشاؤم، والحكم على الأشياء بنظرة كلية من الأخطاء الفادحة التي نقع فيها، فلا يمكن النظر إلى الاختلاف على أنه كله شر، ولا على أنه كله خير، بل فيه خير وفيه شر.
وأمور الدين عندنا ليست نوعا واحدا، فهناك من الدين ما هو قطعيات، لا يجوز الاختلاف حولها، ومن جميل ما ذكره بعض العلماء أن المسائل الكلية المجمع فيما يخص المسائل العامة، وما يتفرع عنها يصل عددها إلى عشرات الآلاف من المسائل، والمسائل المختلف فيها في قرابة الألف مسألة. وهذا يعني أن مساحة الاختلاف قليلة بالنسبة للمتفق عليه.
ولابد من فهم فلسفة الاختلاف في الإسلام، مع معرفة أسبابها.
وأقدم الأسباب أولا، ثم أتحدث عن فلسفة الاختلاف.

 

  • والاختلاف بين الفقهاء له أسباب عديدة:

– منها ما يرجع لطبيعة فهم النصوص، لأن من القرآن والسنة ما هو ظني الدلالة، وفي الحديث ما هو ظني الدلالة والثبوت، فإيراد الأحاديث لا يعني أنها كلها صحيحة، فهناك الصحيح، والضعيف والموضوع، وفي الحديث عن علم الرجال كلام لا مجال للحديث عنه الآن، من حيث تعديل أو ترجيح الرواة.

– كما أن اللغة بطبيعتها حمالة أوجه، لأنها ليست صامتة، بل هي متحركة، فيها من الحيوية ما يتولد عنها معاني متعددة، وليست قوالب جامدة.

– وكذلك اختلاف المناهج الفقهية، فهناك من يأخذ بالقياس، وهناك من يرفض الأخذ به، وكذلك الحال في الاستصحاب والاستحسان وقول الصحابي وشرع من قبلنا والعرف والعادة، وغيرها من الأدلة التشريعية المختلف فيها، فاستناد الحكم على واحدة من هذه الأدلة يجعل من يأخذ بواحد منها يقبل الحكم، ويرفضه الآخر.

وتغير واقع الناس المعاش، لأن النصوص الشرعية ليست قوالب جامدة، والحكم الشرعي هو إنزال النصوص الشرعية على واقع الناس، والواقع متغير، وأحوال الناس مختلفة ومتباينة، فهذا يؤدي حتما إلى الخلاف.

– كما أن هناك ما لا يطلق عليه اختلافا بالمعنى المذموم، فهناك التنوع الفقهي،كالجهر بالبسملة والإسرار بها، والقنوت وعدمه، إلى غير ذلك من مسائل التنوع، وليس الاختلاف، والتي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كل هذا.

كما أن الخلاف في العصر الأول، لأن كل إنسان يقول بما رأى وعلم، ربما رأى بعض الصحابة شيئا، أو علموا شيئا، ولم ير بعضهم ولم يعلم، فكل يتحدث بما رأى وبما سمع .

أما عن طبيعة الخلاف وفلسفته، فإن من حكمة الله تعالى ورحمته بهذه الأمة أنه لم يضيق عليها واسعا، فعلمه سبحانه بتغير الناس حسب الزمان والمكان، اقتضت حكمته أن يكون هناك خلاف، فهذا الرأي أنسب لهؤلاء القوم، وغيره أنسب لغيرهم، وهذا الرأي أوفق لأهل هذا العصر، ولكن مع تجدد العصر وتغيره، كان الرأي الآخر أوفق وأولى.
بل إن الحالة التي يعيشها الإنسان تجعل الفتوى له متغيرة حسب حالته، فقد جاء رجل لابن عباس، وقال له: هل للقاتل العمد من توبة، فنظر الإمام ابن عباس – رضي الله عنه – للرجل، وقال له :لا، هو في النار.
ثم جاءه آخر، وقال له: هل للقاتل العمد من توبة؟ قال له : نعم، ومن يحول بينه وبين توبة الله.
فتعجب أصحابه من موقفه، فقال لهم: نظرت في عين الأول، فرأيت أنه رجل يريد أن يقتل، فأفتيته بالحرمة، أما الآخر، فقد وجدته رجلا مسرفا على نفسه من الندم، فعلمت أنه قد قتل، فأفتيت له بالتوبة.
فتتبع بعض أصحاب ابن عباس الرجلين، فوجدوهما كما قال لهما ابن عباس، وكان ذلك من نور بصيرته.

ولعل اختلاف النظرة بين الفقهاء ليست حديثة اليوم، فمدرسة الرأي ومدرسة الأثر خرجا تأصيلا من قديم الزمن، في عصر النبوة، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين الخروج لقتال بني قريظة لنقضهم العهد، ومحاربتهم الإسلام وخيانتهم العهود والمواثيق، فأمر الرسول أصحابه بالخروج إلى بني قريظة قائلا لهم (من كان سامعا مطيعا، فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة).
فخرج الصحابة، وأذن عليهم العصر في الطريق، فقال بعضهم : يجب علينا الصلاة، لأن وقتها قد دخل، فاعترض عليهم آخرون، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة، فرد عليهم الفريق الأول، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد الصلاة في ذات بني قريظة، وإنما أراد أن يستحثنا على سرعة الخروج، فصلى بعضهم، ولم يصل الآخرون حتى وصلوا بني قريظة، وقد أذن للمغرب، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، لم يعنف واحدا منهم.
وإن كان الإمام ابن تيمية رحمه الله، رجح أن من صلى كان أفقه وأفهم لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ومراده، لكن ستبقى هذه المدرسة الظاهرية، وهذه المدرسة المتعقلة التي تنظر مراد النص، ولا تقف عند ظاهره، وكلاهما خير إن شاء الله.

  • ولكن يجب ألا يجرنا هذا الخلاف إلى الكره والتباغض،

فطبيعة الخلاف رحمة، حتى يجمع الإسلام التيسير على الناس كلهم، وحتى يتوافق الإسلام مع طبائع الناس المختلفة والمتباينة، ولكن هذا لا يعني أن يكون الاختلاف سببا في التنافر والتناحر، فقديما كان من يتمذهب بالشافعية لا يصلي وراء أحد من الأحناف، والأحناف لا يتزوجون من الحنابلة، إلى آخر هذه الأمور.

وهذا جاء في وقت غلب عليه الفراغ العقلي، وقد استوت العلوم، فكان أتباع المذاهب يتعصبون لمذهبهم، حتى قال أحد الأحناف : كل حديث ليس عليه قولنا، فليس بصحيح.

ولكن لو نظرنا إلى الأئمة الكبار لوجدنا عجبا، فالصحابة كانوا يختلفون فيما بينهم، ولم يمنع أحدهما أن يقول الآخر رأيه، ولا يجد غضاضة في نفسه أن يخالفه، والخلاف بين الصحابة في المسائل الفقهية المختلف عليها مشهور.
والأئمة الأربعة نقل عنهم أن أقوالهم اجتهاد، قد يصيبون ويخطئون بطبيعة كونهم بشرا، فهذا الإمام أبو حنيفة يسأل : هذا الذي تفتينا به هو الصواب بعينه ؟ قال : لا، عسى أن يكون الخطأ بعينه، ولكن رأي رأينه، فمن رأى خيرا منه قبلناه .

وقد نقل عن الأئمة قولهم، وهو منسوب للشافعي وغيره: كل يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان الواحد منهم يقول : اعرضوا رأيي على كتاب الله وسنة رسوله، فإن وافقهما، فالحمد لله، وإن خالفهما، فاضربوا به عرض الحائط.
وقد رئي الشافعي يصلى في الكوفة وراء أحد الأحناف، فلما عوتب على هذا، قال: ومن يأبى أن يصلى وراء أبي حنيفة؟ يعني يصلي على مذهب أبي حنيفة.
بل كان الود قائما بين الأئمة، وكل منهما يتعلم من الآخر، فالإمام الشافعي كان تلميذا للإمام أحمد في الحديث، وقد تتلمذ في الفقه على يد مالك، ومحمد بن حسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، وقد تعلم محمد بن الحسن الشيباني على يد مالك، وروى عنه الموطأ، وقد تتلمذ الإمام أحمد على يد الشافعي في الفقه، ومع كل هذا، كان لكل منهم منهج وفقه مستقل عن الآخر، في الأمور الخلافية.
ولكن مصيبة الأمة أنها تتناسى هذا الكم الهائل من الأمور المتفق عليها، والمجمع على وحدة النظر فيها، وأخذوا ينشغلون بالأمور المختلف فيها، مع قلة عددها بالنسبة للمجمع عليها.

وبعدما كادت المذاهب تنتهي، ظهرت التيارات الإسلامية لتعيد لنا بعض هذا الاختلاف – مع ما لها من نصيب وافر في إيقاظ الأمة وردها إلى دينها- فرأينا البعض يعيبون على كثير من غير فكرهم عدم إطلاق لحاهم، لأنهم يأخذون بوجوبها، ويرى الآخرون ضيق أفق هؤلاء، وعدم اعتبارهم بالواقع، والنظر إلى طبيعة الأمر، هل هي للوجوب أم للندب.
وهذا يأخذ بفتاوى ابن باز وابن عثيمين والألباني وغيرهم – رحمهم الله-، ولا يأخذ بفتاوى الشيخ الغزالي والشيخ الدكتور القرضاوي والشيخ سيد سابق، كما أن للآخرين فريقا يأخذ برأيهم و يرفض آراء الآخرين، وهو تعصب ممقوت، فكل هؤلاء وغيرهم رجالات الإسلام وعلمائهم، وفي الوقت الذي يحترم فيه الغربيون الراقصين والراقصات، والمغنيين والمغنيات، والأدباء والشعراء وعلماءهم في جميع التخصصات، لا نجد أنفسنا- نحن المسلمين – نحترم علماءنا، وكلما صعد واعظ أو عالم تبنى رأيا معينا، في الأمور الخلافية يحشد كل طاقته ليرد على فلان، حتى كتب أحد الباحثين كتابا زاد على الثلاثمائة صفحة في وجوب النقاب، ردا على أحد الشيوخ الذين كانوا يرون سنيته.
ويضيع وقت الأمة سدى، بلا فائدة، ونبقى نختلف لمجرد الاختلاف.

إن صح للأقدمين أن يختلفوا، فإن ظروف أمتنا لا تسمح لنا بكل هذا، وأن ننظر ما يحيق بالأمة من مكر وكيد، وأن يتحاب المسلمون، فأين كل هؤلاء من عبادة الحب في الله، وأن يجيئوا في ظل الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله.
وأضحت شهوة النقد لذات النقد هي الأساس، ويكبر كل إنسان نفسه وما علمه، ولو كان قليلا، في حين ينقد الآخر، وربما كان هو لا يساوي شيئا أمام من نقده، في علمه وإخلاصه وعمله، وإن كان هذا حكما ظاهرا، والله يتولى السرائر.

نريد أن يكون الاختلاف الفقهي ساندا للأمة، لا عائقا لها، فطبيعة الشرق غير طبيعة الغرب، ولا يزال الناس مختلفين، هكذا خلقهم الله تعالى.
ولتجتمع الأمة على ما اتفقت عليه كلمة علمائها، وليسعوا إلى تبليغ رسالة الله تعالى، آخذين من الخلاف ما يتزودون به في مسيرتهم، غير ناقمين بعضهم على بعض، ولا كاره بعضهم بعضا، {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ ٱللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلرَّحِيمُ. وَعْدَ ٱللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُۥ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

أخي الحبيب، هذا ما قدرت على كتابته في موضوع الخلاف، فإن يكن قد أصبت، فالحمد لله وحده، أولا وآخرا، وإن تكن الأخرى، فأستغفر الله.

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى