استشاراتالدعوة

السرية في الدعوة.. ضابط الوقت والحال

  • السؤال:
الأستاذ الفاضل مسعود صبري؛
نجد بعض الدعاة يقدمون على فعل بعض الأمور التي لا نستطيع فهم مبرراتها، وإذا راجعناهم في ذلك قالوا: “إنها لمصلحة الدعوة”، فهل يصح أن تكون “مصلحة الدعوة” سبيلا لمنع النقاش أو الحجر على الأفهام؟

 

  • الجواب:

أخي الحبيب سامي؛
شكر الله تعالى لك إذ أحسنت الظن بي لتسألني، وإن لم يكن لي باع في الدعوة إلى الله، غير أني أجتهد رأيي ولا آلو في أن أنصح لله.
لا أخفيك سرا، أني أرى بعض الأخطاء في حقل الدعوة تكاد توجع القلب، وتدمع العين، ولكن نحسب أن من يقعون فيها يفعلونها ونياتهم حسنة، وما كرهت في نفسي شيئا كالجهل بالأشياء، وما أقبل أن أكون في شيء وأنا به جاهل، إننا في الدعوة نربي الناس على العلم بها، ونورثهم تلك الدعوة منهجا وممارسة، حتى يقوموا بها أحسن قيام، ولن يتأتى هذا بمصادرة الفكر.

وإن كان من الجائز تقسيم الأعمال وتوزيعها على من يعملون في الحقل الدعوي، حسب رؤية القائمين ومعرفتهم بطاقات الناس، وحتى تصنيف الناس إلى مراتب في الدعوة -وهو شيء مقبول توافقا مع طبيعة الأشياء، فليس كل الناس على درجة واحدة، وليس كل الناس عالم بكل شيء- غير أنه يجب أن يفهم الإنسان وأن يقتنع بما يفعله وما يدعو الناس إليه، لا أن يكون مطلوبا منه أن يصدق ويسلم بكل شيء حتى وإن كان لا يعيه ولا يفهمه، فما وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد سأله عن شيء: “الأمر هكذا، اقبل ونفذ دون أن تسأل أو تستفهم”، فالنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان قد حثّ الناس على عدم كثرة السؤال فيما لا ينفع، فليس لهذا مجال بين أناس ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا فريقا واحدا يعمل سويا للدعوة إلى الله، بل إن أساس الأمر الفهم والشورى، مع تحري الإخلاص لله رب العالمين.

والسبب فيما أعتقد في المسألة هو كِبر الرئاسة والقيادة، فبعض الناس حين يكون مسئولا عن شيء في الدعوة تراه يعيش عيشة الحاكم الآمر الناهي، وهذا خطأ محض، ومرض قلبي يجب أن يعالج نفسه منه، وأن تتخذ الوسائل التربوية التي تحمي الداعية من شر نفسه وأن يتعاهده الجميع بالنصح، بل المفروض أنه كلما تقدم المرء في الدعوة إلى الله، وأسندت إليه المهام، كلما كان أكثر تواضعا لله مع الناس، وصدق الله حين قال لرسوله: (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).

إن كثيرا من الدعاة المسئولين يحتاجون إلى أن يقرءوا كثيرا في صفات الدعاة المصلحين، وأن يتأسوا بنهج الأنبياء مع قومهم، إذ الداعية قائم مقام النبي في قومه ولو بوجه، ويا حبذا لو كتب أحد الدعاة في هذا الشأن، من خلال الكتاب والسنة والسلف الصالح؛ لأنهم أصدق لهجة، وأصفي من غيرهم.

إن تحديد ضوابط السرية بشكل عام أمر أعده هنا هلاميا، إذ لا يمكن أن نحدد ضوابط معينة، فالمجالات الدعوية كثيرة ومتنوعة.. ولكن نقول أنه من الممكن أن يجلس الدعاة كلٌّ في محيطه وفي دائرة عمله، وأن يحددوا هذه المصلحة، وإذا تحجج شخص بـ “مصلحة الدعوة” لسكوته عن توضيح أمر معين، فهذا يتطلب أولا معرفة العمل، ومعرفة هذه المصلحة، وأن يعوّد المسئولون مَن تحت أيديهم مِن ناشئة الدعاة الاشتراك في التفكير والنظر لدعوتهم؛ لأنهم يورثون منهجا، وهذا يعني أنك أنت الآخر ستكون مثلهم إن تركت الأمر هكذا في نفسك ولم تعالجه، وبقيت سلبيا لا تحرك ساكنا، ولا تخاطب الناس وتتكلم معه بحسن قصد وإخلاص لله.

غير أن هذا  لا ينفي أن تكون هناك سرية في بعض الأعمال، تبعا لظروف العمل، ولكن يراعى الأسلوب الحسن المفيد تربويا في معالجة هذه الأمور، فإذا سأل شخص عن أمر لا علاقة له به، وكان هذا الأمور خاصا بمساحة معينة وأفراد محددون، يجاب بصراحة دون معرفة تفاصيل، كأن يقال له: هذا أمر خاص “بكذا” دون الدخول في التفاصيل، فتحافظ على سرية العمل، مع عدم الحجر على عقول من معنا من الدعاة.. ولا تعارض بين الأمرين.

ويمكن أن نعتبر الدعوة كالمؤسسة التي تقوم بنشاط للجماهير، فغالب المنتج يكون للناس، أما في مجال التخطيط فهناك المتخصصون ببعض الأقسام، ولا يشترط أن تُعلن كل التفاصيل في المؤسسة لكل الناس، ولكن المعرفة هي الأمر الغالب، فالكل يعلم دوره في المؤسسة ويعرف السياسات العامة والأمور الحاكمة لخروج المنتج للناس.

وهناك ظروف لا تسمح بالإجابة الصريحة تفصيلا، يعني يمكن الحفاظ على سرية بعض الأعمال، دون التجهيل، وإن كنت أحب للدعاة أن يخففوا من تلك السرية، وأن تكون في أضيق الحدود، وأن يجهروا بوسائل الدعوة وأعمالها؛ لأن الدعوة لا تكون فيما بين الدعاة وحدهم، ولكنها تكون بينهم وبين الناس في الشوارع والمساجد والبيوت والجامعات والمدارس والمصانع وفي كل مكان.

كما أن هذا الاحتكاك يولد خبرات عملية، وأنهم سيستفيدون من الناس عامة، كما أن في إظهار الأعمال الدعوية للناس نشر لها، وتحفيز الناس على الاقتداء بمن يفعلها، مما يجعلنا ننشر دعوتنا، فإن كان هناك –من الأعمال الدعوية- ما يستوي فيه السرية والإعلان فالإعلان فيه أولى ولا مكان لإخفائه، وليدافع الدعاة عن قضيتهم، فإن أصحاب الفجور يشهرون فجورهم وفسوقهم، وأصحاب الدعوة يستحيون من إظهار الحق، كأننا أضحينا في غير بلاد المسلمين، وهذه قلب للأوضاع.. فمقارئ القرآن مثلا مكانها المسجد، والاختباء في البيوت لأجل قراءة القرآن وتجويده أمر غريب غير مبرر ويضر الدعوة أكثر مما ينفعها، ودروس العلم في أماكن غير مشهورة إماتة لعمل عام، ولكن تضبط الأمور ليبقى العام عاما، وليبقى الخاص خاصا.

وما وجدت أحسن من الحوار عند الاختلاف، فتبادل الآراء ومحاولة أن يظهر الإنسان مقصوده من رأيه يجعل الناس دائما أقرب لقبول الرأي بعد المشورة، أما الاستقلال بالآراء فهذا نوع من الاستبداد غير المقبول في كثير من الأحيان.

وما أنصحك به أن تجلس مع المسئولين عن الدعوة في محيطك، وأن تناقشهم في كل ما يعن لك، وأن تتفقوا على أن يكون الحوار هو الوسيلة، والشورى هي الحاكم والضابط، وبعدما تتفقون يلتزم الجميع بما تم الاتفاق عليه، وهذا يعني ألا يكون هناك تجهيل أو عدم قبول سؤال من أحد، فإن هذا يؤذن بموات الدعوة بين الدعاة، بل كل من أراد أن يسأل عن شيء فليسأل، وقد يتطلب الأمر في أحايين ضيقة ألا يعرفه كل أحد، فربما قد تكون هناك مشكلة لإنسان، لو نشرت لكان هتكا للأسرار الخاصة، فهذا غير مقبول بالطبع.

ومن أهم ما يمكن أن يكون ضابطا عاما في الدعوة هو العلم بالأحكام الشرعية، وكلما كان الدعاة على دراية بعلم الفقه وأصوله، ساعدهم ذلك في تنظيم تفكيرهم، وترتيب أفكارهم، ولا تنسوا أنكم في مركب واحد، قاربه الأخوة في الله، وشراعه الدعوة إلى الله، وتوجهه مرضاة الله، فاجعلوا الأساس دائما في ثبات، لا يزحزحه شيء، ولا يعني الاختلاف في الفروع هدم الأصول، بل قد يكون من الرحمة أن نختلف، لأننا بشر ولسنا قوالب جامدة، على أن ننتهي لأمر نتفق عليه، ولو لم يشبع رغبة كل واحد منا، المهم أن تسير القافلة، وألا يكون في قلوبنا شيء لبعضنا، لأنه بهذا نكون قد هدمنا الدعوة، يوم أن هدمنا الأخوة.
وفقكم الله، وأعانكم على ما أنتم فيه، وحفظكم من كل شر.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى