- السؤال:
السادة الأفاضل؛ السلام عليكم ورحمة الله.. كثيرًا ما أختلف أنا وأخي حول بعض الآراء الفقهية، وهو غالبًا لا يقبل الحوار والمناقشة.. وآخر ما دار بيني وبينه أنه قال: إذا كان في حكم الشيء رأيان فلابد أن أحدهما صحيح والآخر خطأ؛ ومن هنا فهو يقول إن النقاب “صحّ” وكشف الوجه خطأ، واللحية “صح” وحلقها خطأ؛ وهو يبني على أنه مادام هناك رأيان فلابد أن أحدهما صحيح والآخر خطأ.. فكيف، وبماذا أقنع أخي بغير ذلك؟ أرجو إجابتي، ولا ترحلوني إلى قسم آخر.. مع العلم أن أخي هذا يفضلني في الطاعة، ويكبرني في السن، وله في قلبي مكانة، ومع العلم أيضًا أن زوجته أخت فاضلة لكنها مختمرة فقط وغير منتقبة؛ وهو يساوي لحيته ويحلق منها، ويظهر شكلها على أنها زينة وليست لحية طويلة. أشيروا على بارك الله فيكم.. “مادام هناك رأيان فلابد أن أحدهما صحيح والآخر خطأ.. فكيف أقنع أخي؟؟” |
- الجواب:
الأخ الفاضل؛
شكر الله تعالى لك حرصك على أخيك، وأدام الحب بينكما، وجعلكما إخوة متحابين، على سرر متقابلين، في جنات النعيم.. اللهم آمين.
أما فيما يخص مسألة الاختلاف، فأشعر أنه من الخطأ أن كثيرا ممن يتحدثون عن موضوع الخلاف يتصور ويصوِّر الأحكام الفقهية على أنها خلاف، والواقع أن مسائل الاتفاق والإجماع في الأحكام الشرعية تصل إلى عشرة آلاف مسألة، يتفرع عنها من المسائل الجزئية ما يصل إلى مائة ألف مسألة جزئية مجمع عليها، والمسائل المختلف حولها كمسائل جزئية ألف مسألة، فكيف يُصوَّر الفقه على أنه كله خلاف؟
أشعر أن تصوير الفقه على أنه خلاف جريمة فكرية، فأغلب الفقه متفق عليه، ولو انشغل الناس بالمتفق عليه، لما كانوا في حاجة إلى أن يتنازعوا في المختلف حوله.
إن الاقتصار على أصول العقائد والإيمان، وأصول المسائل الفقهية كافية أن تنجي المرء من عذاب الله تعالى، ويا حبذا لو انشغلنا بتطبيق المتفق عليه، قبل التنازع في المخلتف حوله.
ولنضرب مثلا –وخاصة في مجال الدعوة– لو اتفقنا على أن التبرج حرام ويجب أن نحاربه، وأن ندعو الناس إلى فضيلة الحجاب، كمسألةٍ كليةٍ بعيدا عن الاختلاف، هل الحجاب نقاب أم خمار أم إيشارب؟
أليس من المجدي للدعوة أن نسعى لتطبيق مساحة الحجاب، ولنترك للناس اختار ما يشاؤن دون النكير عليهم؟ فمن رضيت لنفسها النقاب فبها ونعمت؛ ومن رضيت الخمار فشيء حسن؛ ومن قبلت الإيشارب فلا بأس.. مادامت المرأة تستر عورتها وتتوفر في ثيابها الشروط الشرعية، فقد أدت الشيء المتفق عليه.
أليس في اجتماع الدعاة باختلاف اتجاهاتهم وأفكارهم على مثل هذه الفضيلة -بشكلها الكلي الذي يقبل التنوع والاختلاف الداخلي- أليس في ذلك خير للأمة؟!!
إننا في مجال الدعوة في حاجة إلى “فقه الدعوة” لا “دعوة الفقه”، وأن نحسن تطبيق ما نعرضه على الناس، وأن تكون سنة “التدرج” هي سبيلنا إلى تطبيق الأحكام الشرعية، وأن نُلبس الفقه ثوب التربية، حتى يكون جميلا يسر الناظرين ويقبل عليه الناس فيطبقونه بحب واقتناع.
أما فيما يخص المسائل المختلف فيها؛ ففقهيا أن هذه كلها آراء معتبرة، وأنه ليس من الصواب أن نلغي رأيا دون آخر، وأن نحكم بصحة رأي على آخر، بل كل الآراء الفقهية ثروة معتبرة في تاريخ وحضارة الأمة، والفقيه الذكي المخلص، هو الذي يحسن إعمال هذا الرأي في هذه الحال، ويطبق الآراء الأخرى في الحالة الخاصة، وليس في باب العموم.
فمثلا؛ جمهور الفقهاء على أن الولي شرط من الشروط التي لا يصح النكاح إلا بها، وهذا هو الرأي المعتبر، ولكن يذهب الأحناف إلى أن المرأة المسلمة البالغة العاقلة لها أن تزوج نفسها دون إذن وليها، فلم يكن الأحناف يلعبون حين قالوا هذا الرأي، ولكن علينا أن نُعمل رأيهم في الحالات التي لا يصلح لها إلا هذا الرأي.
ففي الدول الغربية –مثلا– يُسلم كثير من الأخوات، ومع كون الجمهور يرى أن ولي المرأة غير المسلمة هي وليها حين تسلم، يجيء رأي الأحناف كطوق نجاة، لأن الولي غير المسلم سيرفض أن يزوج ابنته من إنسان على غير ملَّته، فنأخذ في هذه الحال رأي الأحناف بنوع من الاطمئنان كحلٍ وإنقاذٍ لعقيدة الفتاة من أن تبقى مع أهلها ويضيع دينها، فنجعلها هي ولية أمرها أو أن تولي إمام المركز أمرها، ويبقى رأي الجمهور هو الأساس المعتمد.
وكذلك شأن اللحية.. فهي مشروعةٌ في الإسلام، ومشروعيتها تدور بين الوجوب والسنية، المهم ألا تموت اللحية من حياة المسلمين، فندعو الناس إلى تنفيذها ما لم يكن هناك ضرر بالغ، وندع الناس يطلقون لحاهم، بأي شكل وارد، ومن حالت دونه الظروف أن يطلق اللحية، فعندنا فسحة فيمن يرى أنها سنة مؤكدة، ولا نضيق على الناس حياتهم ومعيشتهم، ولا نجعلهم يشعرون بالذنب الكبير الذي يقعدهم عن عمل الواجبات والفروض المتفق عليها.
إننا نحتاج أن نتعلم من الأئمة ألا يكدر صفونا ما يقبل الاختلاف.. فالأخوة باقية، والاحترام باق، والتعاون على الخير دائم مستمر، وكوني أقبل رأيا وغيري يقبل غيره فهذه سنة الله تعالى، ولو شاء الله تعالى أن يجعل النقاب فرضا، لجعله كذلك بنصٍ صريح، ولكن الله تعالى شاء أن يكون مختلفا فيه حتى يأخذ به من يحتاجه، ويتركه من لا يحتمله، وسيبقى كذلك إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، فهذه طبيعة الأمور التي تقبل الاختلاف.
بل أحسب أن الأمور المختلف حولها من رحمة الله تعالى، حيث إن البشر مختلفون، مختلفون في الثقافة والمزاج والبيئة، بل وفي كثير من الأمور، ولما كان الإسلام صالحا لكل زمان ومكان، فكانت الأمور التي لا يتفق عليها بشر غير متفق عليها في الحكم، حتى يقبل الإسلامَ الجميع.
كما أن هناك من الأمور التي لا تعتبر خلافية، بل هي متنوعة، وإن كان البعض يسميها اختلاف تنوع لا تضاد، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بالبسملة ويسر بها، فإن هذا يعني أنه فعل الاثنين وأن الأخذ بأحد الأمرين وارد؛ وكونه قنت في الفجر ولم يقنت، يعني أن الأمرين كلاهما مباح، ورحم الله الإمام ابن القيم حين يسمى فصلا من كتابه “إعلام الموقعين عن رب العالمين”، سماه: “تنوع الفتوى باختلاف الزمان والمكان”، فجعل الاختلاف في الزمان والمكان، وسمى الاختلاف في الفتوى تنوعا.
كما أنه يجب علينا ألا ينسينا الخلاف أنفسنا ومكانة الناس عندنا، فاحترامك لأخيك وتقديرك له يجب أن يكون ثابتا، لا يزحزحه شيء مهما كان، ولا تنقلب الثوابت عندنا إلى متغيرات، ولا نجعل المتغيرات تصل إلى درجة الثوابت، بل يجب أن نضع كل شيء موضعه الواجب على هيئة حسنة.
واسمح لي بكلمة صغيرة لأخيك الحبيب؛ فقد ذكرتَ أن زوجته مختمرة غير منتقبة، وأنه يأخذ من لحيته، فلماذا نجادل بالكلام دون أن يكون لنا فيه من الواقع نصيب، ولست في هذا أقول له: إن كنت مؤمنا بما تقول، فيجب عليك أن تفعله، بل أقول: يجب أن تكون آفاقنا واسعة رحبة، مادام الله تعالى جعل الأمر رحبا، فلماذا نضيق على أنفسنا وعلى الناس؟!
فلنهون على أنفسنا، ولا ندخل أرضا ليست أرض معركة، لأننا صف واحد، واجب علينا خدمة ديننا، وما أكثر الحرام الواقع، وما أكثر الواجب المنسي، فلنكن أذكياء عقلاء حكماء.. نطبق الأساس الذي يبنى عليه بيتنا، قبل أن نختلف على أمور داخل بيت، في حين الاختلاف فيها يهدد أساس البيت بالانهيار
- د. مسعود صبري