استشاراتالشبهات

سفينة الراحة ترسو على “شاطئ النوم”

  • السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لأبدأ في مشكلتي:

بدأت تراودني شكوك غريبة حول بعض معاني القرآن الكريم، أكثرها وأولها تفسير الآية (42) من سورة الزمر، وكذلك الآية (60) من سورة الأنعام، اللتان تعطيان نفس المعنى، وهو بخصوص أن الله يتوفى الأنفس في منامها.

فكل العلماء الذين قرأت لهم كتب التفسير يقولون إن الله يسلب الأرواح أثناء نومها ثم يبعثها عند الاستيقاظ، هل هذا صحيح أم لا؟ خصوصا أن كل علماء التفسير الذين قرأت لهم يقولون نفس هذا التفسير بداية بالشيخ ابن عثيمين – يرحمه الله- وانتهاء بالشيخ طنطاوي.

فهل هذا صحيح؟ وإذا كان صحيحاً فكيف يقال: إن القرآن يهدي إلى طمأنة النفس واستقرارها، وهذه الآية تشعرني بالتشتت والخوف والضياع وعدم الثقة بالنفس، فكيف أشعر بالطمأنينة، وأنا كلما نمت يسلب مني جزء من كياني، خاصة وأنهم يقولون بأن الروح المقصود بها هو كل الكيان النفسي للإنسان، فقد بدأت أعراض الوسواس القهري تنتابني من جراء تفسير هذه الآية الغريب جداً المتعارض مع العقل والشعور بالاستقرار، فهناك أيضا حديث نبوي متعلق بالنوم يعطي نفس المعنى، فلماذا يعطي الإسلام هذه النظرة المخيفة حول النوم؟

 

الجواب:

الأخ الفاضل/ أنس

أنا سعيد جداً لبوحك بتلك الشبهة؛ خوفاً على دينك، وأكرر دائما أنه يجب علينا أن نُخْرِج ما في قلوبنا وصدورنا، وألا نتخوف، لأنه ليس عندنا في الإسلام “عورة فكرية” يجب أن نسترها، في الأسئلة والخواطر والشكوك، بل يجب إدارة الحوار حولها بشكل علمي منضبط بالثوابت الشرعية، آخذاً من التفسيرات المتغيرة والمتنوعة ما يناسب الحال والزمان والمكان.

ولهذا فإني أدعو كل مسلم يجد في نفسه شيئا تجاه الإسلام أن يخبر به دون أن يجد في نفسه أي مأثم شرعي، مادامت النية هي الاستفسار والاستعلام والسعي للوصول إلى الفهم، ونحن في هذا نقتدي بسنة ملائكية، حين استفسرت ملائكة الله تعالى عن خلق آدم، فقالوا “أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح وبحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون”، فمع كون الملائكة طائعة لله في كل صغيرة وكبيرة، فما منعها هذا أن تسأل وأن تستفسر من رب العالمين، وما خدش هذا إيمانها.

ومن المعيب على عدد من الشيوخ أن ينهر من يجد في نفسه شبهة، وأن يسعى لأن تدفن في نفسه متهما من عنده شبهة بضعف الإيمان، والحقيقة أن من أجابه هو ضعيف العلم، ولكنه أحب أن يخفي ضعفه العلمي، فيوقع الناس في الشك أكثر من شكهم، والأولى أن يعترف أنه لا علم عنده، ويمكن أن يسأل من هو أعلم منه، امتثالا لأمر الله تعالى {فَسْـَٔلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وقوله سبحانه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌۭ}.

وفيما يخص الشبهات التي تساورك من النوم، فيجب أن نفهمها في إطارها الكلي، وهي أن النوم آية من آيات الله تعالى، وتنظيم لحياة الإنسان، قال تعالى : {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦ مَنَامُكُم  بِٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُم مِّن فَضْلِهِۦٓ}، فالنوم نعمة من نعم الله تعالى على بني البشر، وهو أمر جبلي لا يمكن أن يستغني عنه إنسان في الوجود، بل هو لازمة من لوازم الإنسان ليمكن له أن يستمر في دورة الحياة، والنوم كآية من آيات الله له فوائد عظيمة، من الحكمة أن يستشعرها الإنسان عند التفكير فيها.

ومزيداً من الفائدة، أسوق لك جانباً من كلام الدكتور عبد الباسط سيد الأستاذ بالمركز القومي للبحوث في مقال له منشور بموقع الإعجاز العلمي، إذ يقول : “فالليل سكن وغشاء، والنوم سكينة وهدوء وأمن، يغشى الإنسان عينيه وتقل حدة سمعه فكأن على سمعه وبصره غشاء، وحجاب يمنع استقبال المؤثرات العادية من صوت وضوء، حتى لو أبعدنا جفنيه أحدهما عن الآخر، فلن يرى بعينيه المفتوحتين وهو نائم، وتهدأ أعضاء النائم وأجهزته، فترتخي عضلاته الإرادية، ويهدأ القلب فيبطئ النبض، وينخفض مستوى ضغط الدم الشرياني، وتهدأ الدورة الدموية، ويهدأ التنفس ويبطئ وينظم، وينخفض استهلاك الأعضاء والأنسجة للأكسجين والمواد الغذائية الأخرى، ويقل نشاط معظم الغدد، ويهدأ الجهاز العصبي، وتستمر حالة السكون هذه إلى أن يحين موعد الاستيقاظ فتنشط أجهزة الجسم تباعاً، وتزداد حيوية الأعضاء والأنسجة تلقائياً، وتعود الحواس إلى حالتها الطبيعية والعضلات على حركاتها الإرادية، ليبدأ الجسم مرحلة جديدة من النشاط، ويكمل دورته البيولوجية اليومية إلى آخر النهار، ليعود بعد ذلك عند حلول الظلام فيغلبه النوم، وتتكرر الدورة من جديد فيما هو عليه العلماء (النظام اليومي) (Circadian rhythm)” ا.هـ

أما فيما يخص القول بأن النوم وفاة، وهذا يجلب نوعا من القلق، مع كون الإسلام يرزق المرء سكينة، فإن علينا أن نراجع أقوال المفسرين في تفسير آيات النوم وحقيقته، وهل بالفعل هو موت أم لا؟

ففي حالة النوم لم يجمع العلماء على أن الروح تقبض، بل اختلف المفسرون في ذلك، فمنهم من رأى قبض الروح، ومنهم من رأى عدم قبضها وبقائها، ومنهم من فرق بين الروح والجسد، وهذا يعني أن المفهوم الذي تسأل عنه ليس واحدا، وبهذا تبطل الشبهة إن أخذنا ببعض الآراء الأخرى.

 

وقد قسم العلماء الوفاة إلى ثلاثة أحوال، كما قال الحسن البصري رضي الله عنه: الوفاة في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أوجه:

وفاة النوم: قال الله تعالى: {وَهُوَ ٱلَّذِى يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيْلِ} [الأنعام: 60] يعني الذي ينيمكم.

وفاة الموت: وذلك قوله تعالى: {ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلْأَنفُسَ حِينَ  مَوْتِهَا}  [الزمر: 42] يعني وقت انقضاء أجلها.

وفاة الرفع: قال الله تعالى: {يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55].

وينقل لنا الإمام القرطبي (صاحب الجامع لأحكام القرآن) رأي بعض من يرى أن الروح باقية وقت النوم، وأن المقصود هو منع النفس عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها “فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى” وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها.

وفرق بعض العلماء بين النفس والروح في هذا المقام، فيقول ابن عباس: (في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز، والروح التي بها النفس والتحريك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه).

وقال القشيري أبو نصر، أحد أئمة السلف: وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحال شيء واحد ولهذا قال: {فَيُمْسِكُ ٱلَّتِى قَضَىٰ عَلَيْهَا ٱلْمَوْتَ وَيُرْسِلُ ٱلْأُخْرَىٰٓ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّى} فإذاً يقبض الله الروح في حالين في حالة النوم وحالة الموت، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة.

وقوله: {وَيُرْسِلُ ٱلْأُخْرَىٰٓ} أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان. فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية. “فيمسك التي قضى عليها الموت”.

ويؤيد التفرقة بين الأمرين ما قاله الأصمعي: سمعت معتمرا يقول: روح الإنسان مثل كبة الغزل، فترسل الروح، فتمضي ثم تمضي ثم تطوى فتجيء فتدخل فمعنى الآية أنه يرسل من الروح شيء في حال النوم ومعظمها في البدن متصل بما يخرج منها اتصالا خفيا، فإذا استيقظ المرء جذب معظم روحه ما انبسط منها فعاد.

وفرق الإمام المناوي بين قبض الموت وقبل النوم، فالقبض في الموت مجاز عن سلب الحس والحركة الإرادية لأن النائم كمقبوض الروح  في سلبها عنه، ولا يلزم من قبض الروح الموت فالموت انقطاع تعلق الروح بالبدن ظاهراً وباطناً والنوم انقطاعه عن ظاهره فقط.

أما طبيعة السلب في حال النوم، ففيه حكم عظيمة، وهي كما يقول الدكتور عبد الباسط سيد أن ” صلة الروح بالجسد أثناء المنام تختلف تماماً عن حالة اليقظة، فالله يتوفى الروح أو يقبضها في المنام وبذلك تتحرر الروح وتخرج من قيود الجسد التي تحد من قدرتها وإمكانيتها لتدخل حالة التوفي وهي حالة خاصة يظهر فيها من وقت لآخر ما لتلك الروح من قدرات يختفي معها حاجز الزمن وحاجز المكان، فهي تستطيع أن تستقبل ما لا يدركه الإنسان بحواسه المعروفة ضيقة المدى وإدراكه المحدود بإمكانية البشرية حبيسة الزمان والمكان، فالروح جوهر يخالف في مادته عن جوهر البدن الأرضي الترابي، ولذلك يمكنها أن تتلقى من الأحاديث، وتظل الروح على اتصال بجسم النائم بصورة لا يعلمها إلا الله، فتنقل إليه كل ما تلقاه، ولكن بصورة رمزية قد يصعب تأويلها في كثيرٍ من الأحيان.”ا.هـ

والنوم ليس نقيض الموت، فنقيض الموت الحياة، أما النوم فهو حالة خاصة من حالات الإنسان، كالطعام والشراب،فهو احتياج بشري لا يمكن الاستغناء عنه، ويكون الجسد فيه حيا وقت النوم، وفيه تظهر تجليات النفس التي يمكن أن تستقبل من رموز الغيب ما لا يمكن له أن يدركه في حال الاستيقاظ، فهو إبراز لإمكانات الروح في حالة التوفي في المنام، ليدرك أن الإنسان يعيش عالما آخر غير الذي يعيشه في اليقظة، ويبقى النوم سرا من أسرار الله تعالى في خلقه.

أما عن التفكير من أنك وقت النوم يسلب جزءا من كيانك، فهذا غير مسلم به، بل إن النومه  الذي يعطي الطمأنينة، كما قال تعالى “إذ يغشيكم النعاس أمنة منه”، والنعاس نوع من أنواع النوم، كما أن النفس لله تعالى، يفعل فيها ما يشاء، والله تعالى لا يقدر لعبده الشر أبدا، بل هو دائما مصدر الطمأنينة والأمان للإنسان، والله تعالى يعلم الإنسان أن ينشغل بما يجب عليه، وقد تكفل هو سبحانه بما له، ليضمن تماما أنه سيصل إليه.

فإن كان لب مشكلتك أن تقول : إن النوم هو موت وسلب لروح الإنسان، فهذا كلام غير مسلم به، وفرق بين الموت والنوم، فالميت جثة هامدة لا تتحرك، أما النوم فهو يمكن أن نطلق عليها حياة من نوع خاص، لا يعلم كنهها إلا الله تعالى، كما أنها لا تؤثر سلبا أبدا على حياة الإنسان ومعاشه ومشاريعه في الحياة ومستقبله، لأن الموت لله تعالى، فقبض الروح حق له سبحانه، قد يكون في أي وقت، ومع علم الإنسان أنه قد يموت في أي لحظة، غير أن هذا لا يمنعه من الإنجاز في الحياة، ولكنها تضبط سلوكه من كونه سيسأل عن أفعاله عند الله.

أرجو أن تجد شيئا نافعا في الكلمات التي سطرتها لك، فإن كان من مناقشات أخرى، فأنا في انتظارك. وتابعنا بأخبارك…

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى