استشاراتالشبهات

محتارة.. إن وصلت رحمي غضبت أمي!!

  • السؤال:
حضرة المستشارين الأفاضل:

حياكم الله ورعاكم وسدد خطاكم وكلل بالتوفيق مسعاكم وجزاكم خير الجزاء:

أما بعد:

فما أود عرضه مشكلة لأخت لي في الله توفي والدها وعمرها تسعة أشهر بمرض خبيث فتركها وأختين لها وأخا وأما (زوجته) ترعاهم وأوصى أم أمها (حماته) أن تعتني بالصغيرة وأنها أمانة في عنقها وفعلا كان ما أراد فتربت الصغيرة عند جدتها ترعاها وتعتني بها وتؤدبها بعيدا عن أمها وأخوتها الذين شربوا حقدا عظيما على أهل والدهم المتوفى من أمهم التي عانت من أهل زوجها الويلات (كما تقول) بعد وفاته،  حيث اتهموها بقتله وأنها السبب في موته، ورفعوا القضية للشرطة وبقيت سبع سنوات تعاني من المحاكم والمخافر حتى بانت براءتها واتضحت قضية وفاة زوجها.. عند ذلك أضمرت لهم حقدا وعداوة.. واعتبرت ما قاموا به ذنبا لا يغتفر.. خاصة أنهم أهملوا الأولاد والإنفاق عليهم وكأنهم لا يمتون لهم بصلة..

وعاش الأولاد وأمهم في فقر وضيق وقلة ذات يد أعواما عديدة لا أحد يسأل عنهم أو يقدم لهم خدمة.. المشكلة الآن أن الأولاد لا يعرفون أهل والدهم المتوفى (الجد والجدة والعم والعمة…) ولا يتصلون بهم ويقطعون رحمهم بتوجيه من أمهم التي تثور وتغضب وتبكي كلما فتح معها أحد هذا الموضوع وحاول الإصلاح وتقريب القلوب لجمع الشمل وصلة الرحم، والبنت الصغيرة أصبحت الآن في عمر 17 وهي تتلقى العلم الشرعي وتعرف خطر قطيعة الرحم ولم تحمل الحقد الذي حمله إخوتها على اعتبار أنها تربت عند جدتها التي ما ذكرت لها هذه القصة ولا عمقت العداوة في قلبها وأملها أن ترى جدها وجدتها وتتعرف عليهم قبل وفاتهم وتصل رحمها رغم إساءتهم كل ذلك لوجه الله وطاعة لله لا لنفسها أو مصلحة شخصية بل تخشى غضب الله، ولكنها تخاف غضب أمها فماذا تفعل؟؟

أرجو أن تعينوني في إيجاد حل لها.

 

  • الجواب:

الأخت الكريمة:

جزاك الله تعالى خيرا عن اهتمامك بإحدى زميلاتك، تسألين عن قضية تهمها، ولا شك أنك عشت معها بعض ما تعانيه، فلك الأجر والثواب عند الله يوم الجزاء والحساب.

  • أما فيما يخص المشكلة فأقول وبالله التوفيق:

ملعون ذلك الظلم بكل ألوانه، وألف لعنة على ذلك الظلم الاجتماعي الذي يقطع الأواصر، ويقطع حبال الود، ويشتت الأسرة الواحدة، ويجعل الناس شيعا متفرقين، بعد أن كانوا على وصل سواء، فقست القلوب وتحجرت، لتهدم كل معاني الألفة والمحبة الإنسانية والاجتماعية التي يسعى الإسلام دائما إلى أن تكون لحمة واحدة، وأن يكون المسلمون كما وصفهم الله: “إنما المؤمنون إخوة”.

ذلك الظلم الذي يهدم البيوت، ويخرب العقول، ويميت القلوب، فصاحبه مأزور غير مأجور، وخاطئ غير صائب، وخارج عن الحق، وباطل ما عمل، وحسابه عند ربه، ليجازيه على ما عمل، كما قال تعالى: “وَٱتَّقُوا۟ يَوْمًۭا تُرْجَعُونَ فِيهِ  إِلَى ٱللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍۢ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ”.

  • و السر في ذلك الظلم الاجتماعي أمران:

الأول: موت القلوب، فإذا مات القلب، غشي عليه، وعمت الأعين، وصمت الآذان، وشلت الأيدي عن أن تمتد للعمل الصالح، وتسمرت الأقدام أن تمشي في سبيل الله، وبقي الإنسان ميتا ولو كان حيا يمشي على الأرض ويحيا بين الناس، فحياة الناس رهن بحياة قلوبهم، كما قال تعالى:” أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها”.

الثاني: حب الدنيا لذاتها، وتقديمها عن كل شيء شهوة للنفس، وسعيا للفساد، و تحويلها من مزرعة للآخرة، لمحرقة تأتي أواصر الأخوة، ومن قنطرة توصل المرء إلى الله، إلى بحر يغرق فيه الناس، ومن حياة حلوة كلها سعادة تشع بين الجميع، إلى وجود بؤساء في الأرض يجأرون إلى الله ظلم الظالمين، غير أن الله وعد المظلوم أن ينصره ولو بعد حين، بل يقسم الله تعالى، وهو أمر قليل في الشرع أن ينطفئ نار الظلم في قلوب المظلومين، فيقول في الحديث القدسي:” وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين”.

فليهنأ المظلوم بنصر الله، وليحزن الظالم بظلمه يوم أن يلقى الله مفلسا، قد دمر آخرته بدنياه، فلا يجد شيئا يعتذر به عند الله.

إن الناظر لخريطة النصوص الشرعية يلحظ حرص الإسلام على التواصل بين المجتمع البشري بكافة مستوياته:

– تواصل بين كل بني آدم، مسلمين وغير مسلمين، تعاونا على البر والتقوى، وسعيا لتعمير الأرض وإصلاحها.

– تواصل بين المسلمين فيما بينهم كأمة واحدة، عندهم من الروابط ما يجعله علاقة كالعروة الوثقى.

– تواصل بين الجيران في المنطقة السكنية، ولو لم يكن بينهم أنساب.

– تواصل بين الأصهار بسبب الزواج وإن لم يكونوا أقارب.

– تواصل بين الأسرة الواحدة والعائلة الواحدة في المحيط العائلة الكبيرة.

– تواصل بين الآباء والأمهات مع أولادهم.

– تواصل بين الزوجين حبا ومودة ورحمة وشفقة وعطاء وبذلا وسعادة.

 

فالإسلام دين التواصل، والداعي إلى مد حبل الوصال، ومن عظمة طبيعة العلاقات الاجتماعية بين الناس أن أمر الشرع بوصل الرحم، وجعل الله تعالى لها اشتقاقا من اسمه، فهو الرحمن، وهي الرحم، كما جاء في الحديث: “شققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته”.

بل يثني الله تعالى على واصل الرحم، فيقول:” والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب”، بهذا الخطاب الحميمي الجميل الذي يدفع الإنسان لصلة الرحم، مهما كانت هي قاطعة، لأنه يصل ما أمر الله به أن يوصل، لا لهم، ولكن لله، ومن صدق الله في فعل له سبحانه، فمن المستحيل أن يقطعه، إذ هو يحضر بجسده مع المخلوق، ولكنه بقلبه مع الخالق، وإذا حضر القلب، جلب معه الجسد، وكان الجسد تابعا له، ولكن إذا التفت المخلوق للمخلوق، هنا تبدأ المشكلة ويأتي قطع الوصل المأمور بوصله.

وحينها يجيء النكير الإلهي الذي يفزع القلوب:” فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم”، فعطف الله تعالى قطع الرحم بالإفساد في الأرض، بل هو من الإفساد حقيقة، لأن الناظر إلى منهج الإسلام يدرك عظم تلك العلاقات بين الأقارب، كما قال تعالى:” يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن كان الله كان عليكم رقيبا”.

 

  • وفي موقف زميلتك -أختنا الفاضلة– لي بعض الملاحظات:

* أنه يجب علينا أن ندرك قدر المعاناة التي عاشتها أمها من ظلم وضياع للحقوق وترك لها ولأولادها سنين، فليس من الحكمة أن ينسى كل هذا بالنسبة لها، يعني حين نخاطبها يجب ألا نغفل هذا، بل نقرر بكل شدة أن هذا ظلم بين، ولكن ليس نحن الذين نحاسب العباد، فالشعور بالظلم شيء فطري في حياة الناس، وليس من الحكمة أن نقتله، ولكن يجب أن نفرق بين الأدوار التي يقوم بها الناس، فإنا لن نحاسب العباد، فهذا من فعل الله تعالى، ولكن نحن نغضب للظلم ولا نرضاه، ومن الإيمان أن نتغاضى عنه، وأن نغفر لإخواننا ما وقعوا فيه من ظلم لنا، أو على الأقل نكل أمرهم إلى الله، ونفوض الأمور كلها له سبحانه وتعالى، وهذا هو المدخل الذي أحسبه جيدا في الحديث مع الأم.

 

* أما عن الفتاة، فإن هناك إشكالية يفهمها عدد غير قليل خطأ، وهي علاقة الأبناء بآبائهم، فالأبناء حين يكبرون لهم استقلالية في إطار الشرع الحكيم، فليس كل ما يأمر به الوالد أو الأم يجب تنفيذه، بل الطاعة في المعروف، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما جاء أيضا في حديث: “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”، إن الشاب أو الفتاة يحاسب أمام الله تعالى، ولن ينفعه والده أو أمه، كما قال تعالى: {يَوْمًۭا لَّا يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِۦ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِۦ شَيْـًٔا}، فالمسئولية فيما أمر الله فردية، ولو أمر والد ولده، أو أم ابنتها بقطع الرحم، فيجب على الولد أن يخالف والديه، وأن يصل ما أمر الله تعالى به أن يوصل، ويحرم عليه طاعتهما، مع إحسان المعاملة لهما، بهذه الخطوط الرفيعة يدرك الإنسان منهج التعامل في كثير من القضايا التي تظهر فيها إشكاليات بين الآباء والأبناء، إنما الطاعة في المعروف، والإسلام يعطي الأبناء حرية منضبطة تحقق لهم التوازن في الحياة والحفاظ على حقوق الآخرين.

* إذا كانت معرفة الوالدة والأخوات قد تضر بعلاقة الفتاة معها فيمكن لها أن تصل رحمها دون أن تعرف أمها أو إخوتها، حتى تطيب الأجواء وتهدأ أفضل مما هي عليه، وليس بلازم في الشرع أن يعرف الوالد كل شيء عن ولده مما يفعله من واجب أو شيء مباح، ما لم يضر به، لأنه مسئول أمام الله تعالى.

 

* لو عرفت الأم أن الفتاة تصل رحمها فغضبت، فغضبها لا يحمل الفتاة إثما، ولا تكون عاقة لها، فهي أدت ما افترضه الله تعالى عليها.

لكن يجب علينا أن نعالج الأمر من جميع أطرافه، الأم التي ظلمت وعانت، وأن تسامح أصهارها، وأن تتعلم من الله العفو، فكم عفا الله تعالى عنا ويعفو وسيعفو، وكل الناس تخطئ، وأن تحتسب ذلك عند الله، أو على الأقل تفوض الأمر لله، والأبناء يجب عليهم أن يصلوا أرحامهم، قد لا يكونون جميعا على درجة واحدة من الوصل، فمن تربت في بيت جدها غير من ابتعدوا وشعروا بالظلم، لكن المهم أن يكون هناك وصل لا قطع، والزمن جزء من العلاج، والبركة في فعل ما افترض الله تعالى.

جزاك الله خيرا، ونرجو أن تطمئنينا عما ستفعله صاحبتك. وتحياتي لكم جميعا، ولا تنسوني من صالح دعائكم.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى