استشاراتالشبهات

لا أقنع ولا أرضى بما كتبه الله!

  • السؤال:
أحتاج إليكم أن تساعدوني على حل مشكلتي التي أثق في أن هذا الشهر الكريم يمكننا من حسن العبادة وتحسين الخلق وتزويد الروح بما تحتاج إليه..

أنا فتاة من عائلة محترمة، مشكلتي أنني لست متدينة مع أن أخواتي وأمي متحجبات ومتدينات، في الفترة الأخيرة بعدت عن الله كثيرا؛ لأني دخلت في علاقة فاشلة وانتهت، أواجه مشكلة في المواظبة على الصلاة، مع أني كنت مواظبة عليها من قبل. أكبر مشكلة عندي هي عدم وجود القناعة والرضا بما كتب الله.

أنا كثيرة الشكوى والتفكير، أحلم بأن يكون لدي طفل ولكني لست متزوجة، كما أنني لست جميلة كبقية عائلتي. أظن أن الزواج لن يحصل مما يقوي إحساسي بعدم القناعة والغضب.

 

  • الجواب:

الأخت الفاضلة، كل عام وأنت إلى الله أقرب، وله أطوع..

رسالتك مع قصر كلماتها و وجازة عبارتها إلا أنها خلصت كثيرا من مشاكلك، وهذا يعني عن إيجابيات في الشخصية؛ فأنت بطبيعة رزقت شيئا من التركيز، وكذلك التحليل، وأنك دائما تنظرين إلى لب الموضوع وجوهره دون الدخول في كثير من التفاصيل، وهذه من نعم الله تعالى عليك..

وهذا يجرني بك إلى أن تنظري لنفسك فيما وهبك الله تعالى من أمور طيبة، فضلت بها عن غيرك، ومنحك الله تعالى ما لم يمنح كثيرا من زميلاتك وأقرانك؛ فإن النظر إلى النعم يدفع للشكر، ويأخذ بيد النفس الطيبة أن تكون عابدة لله تعالى، راجعة له.

كما أن طلبك المساعدة للتوبة يعني أن فيك خيرا كثيرا، وأن عندك من الأعمال الصالحة الطيبة ما يجعل من السهل عليك أن تسلكي سبيل الله، وأن تعودي إليه سريعا، مثل شخصيتك أعتقد أنها حين تتدين وتلتزم ستكون أكثر من غيرها التزاما وتقربا إلى الله؛ فإن الله تعالى- حسب فهمي لشخصيتك من خلال رسالتك- حباك صفات جميلة كثيرة، والمطلوب منا حين نستنهض أنفسنا أن نحيي فيها منابت الخير، وأن نعظم فيها الأعمال الصالحة، وأن ننفض عن أنفسنا وهم العجز عن الطاعة، وأن نقوي إرادتنا لعمل الصالحات، ساعتها يتلاشى كل ما كان يدور في خلدنا أنه لا يمكننا الرجوع إلى الله.

وإذا أراد الإنسان أن يدخل مكانا ووجد الباب مفتوحا، فحين يدعي أنه لا يقدر على الدخول، فإن داء الوهم أعماه، وأن ما أصابه من شلل منع حركته إنما هو وهم زائل، علاجه أن يتحرك ليس إلا؛ لأنه ليس هناك ما يمنعه، ومما يساعده أن من فتح له بابه يناديه، ربما يتردد الإنسان عن الدخول، لكن هذا لا يعني العجز، ولكن يزول هذا التردد إذا ناداه من يريد الذهاب إليه؛ فذلك النداء يقطع التردد، ويدفع بقوة نفسية إلى أن يتحرك نحو هدفه.

والله تعالى ينادينا دائما: {وَتُوبُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ويقول لنا: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، ويخبر عنه نبينا صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار، ليتوب مسيء الليل”..

إن التوبة تبدأ بقوة دافعة من النفس، ويقين بحب الله تعالى للتوبة التائبين، وعودة الراجعين، وتيسيره لهم طريق الإنابة، وحين يقبل المرء بقلبه تائبا تفتح أبواب الخير؛ فيرزق من حسن الأخلاق ما يجعله راضيا عن قضاء اللهِ، بل لا يرى الخير إلا فيما كتبه الله تعالى، فينقلب الأسود في عينه أبيض من اللبن.

ويصبح مر القدر أحلى من العسل؛ لأن قلبه تعلق بالله، ومن تعلق بالله، هانت عليه الدنيا وما فيها، فلم يجد حبيبا بحق إلا الله، ولم يجد معينا بصدق إلا الله، ولأن قلبه بين أصبعين من أصابعه، فيهبه الله تعالى الرضا عنه.

وحين يرضى العبد عن ربه، يكافئه ربه بالرضا عنه، {رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا۟ عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ}، فيكون من تمام الرضا تولد الخشية من الله، فيحفظ المرء من الوقوع في الكبائر، بل يكره إتيان الصغائر ولا يقع فيها عامدا، فيحبب الله إليه الإيمان في قلبه، ويكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، فيصبح من عباد الله الراشدين، فيبصر بعد عمى، ويهدى بعد ضلالة، فيتذكر نعمة الله تعالى عليه: {وَوَجَدَكَ ضَآلًّۭا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَآئِلًۭا فَأَغْنَىٰ}، ويدرك أن نعمة الطاعة عنده أغلى كنوز الدنيا، وأن الله تعالى لن يحرمه خيري الدنيا والآخرة {وَلَلْـَٔاخِرَةُ خَيْرٌۭ لَّكَ مِنَ ٱلْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰٓ}، فيشعر ببرد رحمة الله على صدره، ويسكن الرضا فؤاده، وأن الله سيكون معه ولن يتركه أبدا: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ}.

 

  • أما عن تساؤلاتك تفصيلا فأجملها لك فيما يلي:

عدم التدين:

إن شعور المرء بنقص دينه، وتفوق أقرانه عليه في طاعة الله ظاهرة صحية، تجعله مؤهلا لأن يلحق بالركب، بل يمكن أن يسابقهم فيه بعد أن يعود إلى الله، وهذا يعني أن الإيمان نابت في القلب، وإن كان مخدرا، تحت تأثير المعاصي التي غيبته، ولكنه ليس بميت، وفرق بين المريض والميت، وأنت تطلبين التوبة، وهذا يعني أنه من اليسير عليك أن تعودي إلى الله تعالى، وأن تلحقي بأخواتك.

ولكن انتبهي، اعقدي أمرا بينك وبين الله، بينك وبينه فقط، استشعري أنك أمة الله تعالى، صالحيه بعد غضبه، وترجيه أن يصفح عنك، فلن تجديه إلا غفورا رحيما، كلميه بقلبك، وبلسان حالك بينك وبينه، واشكي له كل ما تريدين، اجعلي صلاحك وتوبتك بينك وبينه، خالصة له سبحانه وتعالى، وثقي وأنت عائدة أن الإيمان قلب خاشع، وعمل صالح، ومظهر طيب.

ورب عمل قلب سبق أعمال جوارح؛ فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وليس ما عمل ولم يكن للقلب فيه نصيب، وفائدة هذا أنك ستثبتين على الإيمان، ولن تجدي شكوى من حنينك للمعصية، لأن مدار الإيمان على القلب، فإذا ملئ القلب إيمانا، وثبت الله صاحبه، عجزت شياطين الإنس والجن أن تهز هذا الجبل الشامخ، فيبقى ثابتا حتى يلقى الله تعالى؛ فهو يغذي قلبه بالإيمان قبل جوارحه، وكثير من شكوى الناس في ضعف الإيمان أنهم يهتمون بطاعات الجوارح دون طاعات القلوب، والجمع بينهما جماع الأمر، وتقدم طاعة القلب على طاعة الجارحة.

العلاقة الفاشلة:

أما عن علاقتك الفاشلة والتي انتهت، فإن هذا الفشل دليل حب الله تعالى لك، فاحمدي الله تعالى أن عصمك، وأبعدك عن معصيته، وأنه أراد لك أن تكون طاهرة القلب والقالب، وأن تتعلمي من تلك العلاقة أن كل سير في غير رضا الله، لا فائدة منه، وضرره غالب على نفعه، وقد طلب الله تعالى من كل فتاة أن تكون حافظة لنفسها؛ فإن ذلك من دلائل إيمانها، وقد مدح الله تعالى الصالحات بأنهن يحفظن أنفسهن من الوقوع في الرذيلة فقال:

 “فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله”، فكل علاقة تبنى على غير ما أحل الله، فلن تأتي بخير، وهو درس أن تنظمي علاقتك مع غيرك، وأن يكون الميزان: هل يرضى الله تعالى عن تلك العلاقة أم لا؟

عدم المواظبة على الصلاة:

أما عن عدم مواظبتك على الصلاة؛ لأن القلب مطلي بالمعاصي، فهو لا يبصر ما يتغذى به من طاعة الله، وحين العودة إلى الله تعالى والتوبة إليه، يكون القلب أشد تعلقا بالله، ويكون أكثر عطشا أن يقف بين يدي الله تعالى، وأنصحك بما يلي:
1- أن تبادري بالصلاة وقت الأذان، فتصلين في أول الوقت.
2- يا حبذا لو صليت في المسجد مع الجماعة، فإن هذا أدعى لترك الكسل عن أداء الصلاة.
3- تعاهدي مع بعض أخواتك وزميلاتك بأن يعين بعضكن بعضا على الصلاة والتذكير بها، وأن تتفقد كل منكن الأخرى إن غابت عن الصلاة.
4- استمعي إلى بعض الشرائط عن فضل الصلاة، وأرشح لك ما سجله الأستاذ عمرو خالد في شريطه عن الصلاة.
5- أكثري من الدعاء أن يهبك الله تعالى المحافظة على الصلاة “رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء”.
6- اقرئي في سير الصالحين، كيف كان حالهم في الصلاة.

 

عدم الرضا والقناعة:

أما عن عدم الرضا والقناعة، فإن مرد هذا إلى الإيمان القلبي، فكلما أمددت قلبك بالطاعة لله تعالى، وهبه الله تعالى الرضا عن كل ما يقدر، ويكون ما قدره الله تعالى أحب إلينا مما نخططه ونتمناه لأنفسنا، وحين نعلم أن الله تعالى لا يبخل علينا بأي شيء نافع لنا، وأن ما يحرمنا منه إنما هو عطاء منه إلينا؛ لأنه لا يمنعنا إلا ما فيه ضررنا، وأنه يدخر لنا الخير دائما.

وأننا لا نعلم إلا ما نراه بأعيننا، وما نعرفه بعقولنا وثقافتنا، وعلمنا علم محدود، أما علم الله تعالى فهو سبحانه قد أحاط بكل شيء علما، “والله يعلم وأنتم لا تعلمون”، واجعلي دائما قوله تعالى: “لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم”، فكل ما قدر الرحمن محمود، فحين يتولد في نفسك الثقة بالله، يهبك الله تعالى الرضا بالقضاء والقدر.

تمني الزواج:

أما أمنية الزواج وأن يكون عندك ولد، فتلك طبيعة بشرية، ليست شرا، بل هي تعبير عن فطرة الله تعالى التي فطر عليها بنات حواء، أما عن وصفك نفسك بأنك لست جميلة، فانظري في حال المتزوجين، فكم من الفتيات الجميلات اللاتي لا يختلف اثنان عن جمالهن ولم يكتب لهن الزواج بعد، ومن من الفتيات اللاتي لسن في عداد الجميلات ومتزوجات وعندهن أولاد، بل أفهم من كلامك أنك والحمد لله لست ذميمة.

ولكن ربما تكونين أقل جمالا من غيرك، وهذه طبيعة بشرية، فكل جميلة هناك من هي أجمل منها، كما أن الجمال شيء نسبي، ثم إن الناس لا يختارون الزواج بمقياس الجمال وحده، ولكن هناك جمال الروح وخفة الدم، وحسن الأخلاق والبيت الصالح، والتدين، وغيرها من مقاييس البشر في الزواج.

والزواج رزق مكتوب، يأتي للإنسان في أوانه ووقته، وكما قال تعالى: {وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُۥ بِمِقْدَارٍ}، ولكن مشكلتك هي جزء من مشكلة كبرى في المجتمع، من سوء الأوضاع الاقتصادية، وغلاء المهور ونفقات الزواج، وليس بسبب أنك لست جميلة مثل كثير من الجميلات، ولكن اشغلي بالك بإقبالك على الله، فسيفتح الله تعالى لك من رحمة الطاعة والإيمان، ورحمة التوسعة في الدنيا، وتذكري يوم ستتزوجين، نعمة الله تعالى عليك.

أوقن أنك ستبدئين بالتوبة، ولكن لا تؤخري، قومي الآن بعد قراءة هذه السطور، واجلسي مع الله، وعودي إليه؛ فإن حياتك سيكون لها طعم آخر، لن تتنازلي عنه أبدا، مهما كانت مغريات الحياة، فإنه كما يقول أحد الصالحين: “لو يعلم الملوك ما نحن فيه من النعيم- يعني نعيم الطاعة- لجالدونا عليه بالسيوف”، فقومي لربك، وعودي إليه

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى