- السؤال:
فتاه لم يسبق لها الزواج وتقدم للاقتران بها من سبق له الزواج، وانفصل ولديه طفل من هذا الزواج. هل يعد كونه سبق له الارتباط مبررا كافيا لأهل الفتاة لرفض هذا الزواج؟ متجاهلين الميزان الحقيقي للإنسان في الإسلام من حيث الأخلاق والتدين لهذا الإنسان؟ مع وجود التفاهم والتكافؤ المناسب بينهما. |
- الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد :
الأخت الفاضلة:
مع كون استشارتك اجتماعية في المقام الأول، غير أن تساؤلك إيماني، فأنت تحيلين الأمر إلى الدين والإيمان، وعلى هذا الأساس سنتعامل مع استشارتك مع عدم إغفال الجانب الاجتماعي في المسألة.
فلا شك من حيث طبيعة ديننا الحنيف أنه لا يجعل من شروط قبول الزواج أن يكون الإنسان لم يسبق له الزواج، وعدم قبول الشخص الذي سبق له الزواج هو في المقام الأول نظرة اجتماعية بحتة، ليست نابعة من الدين، وإن لم نحكم بخطئها في كل الأحوال، ولقد جاءت النصوص الشرعية تبين الحد الأدنى والأساسي الذي يمكن على أساسه القبول أو الرفض، وأول هذه الأشياء تدينه وحسن أخلاقه، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”، وفي رواية: “وفساد عريض”، ونلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين ثم الخلق، ومع كون الأخلاق من صميم الدين، إلا أن تأكيد الرسول صلى الله عليه وسلم على الأخلاق يلفت انتباه الفتيات، كما يلفت انتباه الآباء والأمهات عند الاختيار، فالدين يشمل العقيدة والعبادات والأخلاق والسلوكيات، لكن من منهج النبي صلى الله عليه وسلم وبلاغته أنه حين يريد أن يؤكد على أمر جزئي من أمر كلي، يذكر الكلي أولا ثم الجزئي، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه،وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه”. فذكر العمر، ثم ذكر الشباب لأهميته، مع كون الشباب جزءا من العمر.
وهكذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر العبادي الاجتماعي، فذكر الدين أولا ثم ذكر الأخلاق، لأهميتها، حتى لا ينخدع الناس من الذين يؤدون الصلوات في المساجد، ويؤتون الزكاة، ويحجون إلى بيت الله الحرام، ويصومون، غير أن تعاملاتهم مع الناس شيء مختلف عن عباداتهم، فالدين عندهم رسوم لا حقائق.
ومن تلك المعاني أيضا أن انخداع الناس بمن يصورون الناس أنهم على درجة من الإيمان والدين والأخلاق، ويلبسون زي الطائعين، ولكن أخلاقهم مع الناس سيئة، وقد لا يظهرون هذا في أول الأمر عند التعارف في الزواج، فيصاب الناس بكره الدين، ويكره الناس المتسمين بالملتزمين، فكانت إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأخلاق تأكيدا لأهميتها وضروريتها.
وقد يكون من المعاني أيضا أن الزواج قائم على التعامل بين الزوج والزوجة، فكان الاهتمام بأمر الأخلاق والسلوكيات يفوق أمر العبادات التي يحصر كثير من الناس الدين فيها، ولأن الناس كلهم مطالبون بإتيان العبادات المفروضة، ويجعلون هذا هو صميم الدين، فلفت النبي صلى الله عليه وسلم الانتباه إلى وجوب الأخلاق، لأهميته في طبيعة التعامل في الحياة الزوجية، وما يترتب على هذا من الحالة النفسية للزوجة، وكذلك الحالة النفسية للزوج إن كانت زوجته سيئة الأخلاق، لأن الإسلام حين يأمر الرجل بشيء، فالأمر يكون للأمة كلها رجالا ونساء، وكذلك أيضا في الأمور التي وجهت لأولياء الأمور هي للأزواج أيضا.
وقد يكون من الأمور المهمة أن للأخلاق أثرا كبيرا في تربية الأولاد، وعلى كل أسرة أن تختار ما يناسبها في تربية أبنائها، فكان النظر إلى اختيار الزوج على أساس الدين أولا، ثم على أساس الأخلاق، لأثر هذا على سلوك الأبناء.
وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم بلفظ الرضا “إذا جاءكم من ترضون”، والرضا يختلف من شخص لآخر، ومقاييس الناس متفاوتة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الرضا على أساس أمرين: الدين والخلق، ولكن الدين شيء كبير، والأخلاق متفاوتة، ومن الناس من يقبل طبيعة لأخلاق إنسان لا يقبلها غيره، وقد تختار الفتاة شابا على درجة من الالتزام معينة، فقد لا تقبل فتاة شابا ملتزما بدرجة عالية، وتقبل أخرى شابا ملتزما بدرجة أقل، ولهذا، فإن الإسلام لم يضيق على الناس واسعا، وهو بمنهجه يضع ضوابط عامة، وعلى الناس أن تختار المناسب والأوفق لها.
ومن أسس الاختيار التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء في قوله :”تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك”، فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أسس الاختيار عند الناس، فالمرء قد يتزوج امرأة لما عندها من كثرة المال، وآخر للحسب والنسب، وثالث للجمال، ورابع للدين، ويرجح الرسول صلى الله عليه وسلم الدين، بل ويحذر من تركه أساسا للاختيار، فيقول “فاظفر بذات الدين تربت يداك”، أي أنك إن لم تتزوج على أساس الدين أصابك الفقر، وتربت اليد، أي أصابها التراب كناية عن الفقر، وأفهم الفقر عنها ليس بمعناه المادي فحسب، بل أحسب أنهم يشمل الخسارة بشتى أنواعها، فقر عاطفي، وفقر مادي، وفقر في الدين، وفقر كل مظاهر الحياة أو كثير منها، والله أعلم بما قال رسوله.
ولكن ليس الدين وحده هو الكافي لأن يكون الأساس في الاختيار، بمعنى لا يشترط على كل مسلمة جاءها رجل ذو دين أن تقبله دون أن ترى هل هو يناسبها أم لا؟
وهذا الكلام مبني على أن الزواج مؤسسة اجتماعية دينية في الإسلام، لها وظائف متعددة، يجب فيها القبول والرضا باعتبار الزواج عقدا من العقود، وإن كنت أحسب أن اعتبار الزواج عقد فحسب هضم لحق الزواج في الإسلام، وصورة جزئية لا تخرج الزواج بالشكل الكلي له في الإسلام.
فالزواج في الإسلام يجب أن يبنى على التفاهم في أدنى درجاته، وأن يكون هناك قبول بين الزوجين، وأن يتم التعارف حتى تستقيم الحياة، وأفهم هذه المعاني من الآيات القرآنية وأحاديث السنة النبوية، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ ءَايَـٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًۭا لِّتَسْكُنُوٓا۟ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةًۭ وَرَحْمَةً}، فالمودة من أعلى الدرجات بين الزوجين، وهي تعني الحب والتفاهم والتقارب الذي يدفع لأعلى درجات حسن العشرة، والدرجة الأخرى هي درجة الرحمة، وهذه أقل الدرجات بين الزوجين، تكون في حالات عدم التفاهم أو ليست الحياة على الوجه المطلوب، فيكون الحد الأدنى الواجب على الزوجين أن يتعاملا بالرحمة فيما بينهما.
كما أن اشتراط القبول يفهم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي خطب امرأة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: “هل نظرت إليها؟” قال: لا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما”. فأول طريق الخطبة والزواج أن ينظر الرجل إلى المرأة، وأن تنظر أيضا المرأة إلى الرجل، فإن شعرا بالقبول مبدئيا، فليتقدم إلى أهلها، ثم تتم فترة الخطبة، ليتم التعارف اللازم بينهما، فإن شعرا أنها سيكونان سعيدين، فليتم العقد والبناء، وإلا فليتفرقا بالمعروف والحسنى، وكل منهما يدعو لأخيه بالتوفيق.
وقد قلت كل هذا الكلام، ولم أنس أصل الاستشارة، من كون المتقدم إليك أيتها الأخت الفاضلة كان متزوجا، وانفصل، فليس فيه ما يعيبه، مادام تجدين مع التوافق النفسي، وتشعرين أنك تجدين فيه الزوج الصالح، الذي يعينك على أمر دينك ودنياك.
ولكن أحب لك أن تتفهمي، وألا يكون عندك عجلة من الأمر، فتعرفي على هذا الأخ جيدا، ثم يمكن لك أن تناقشي أهلك أن يكون هناك فترة خطبة، يتم فيها التعارف عن قرب، فإن قبلت وقبلوا معك، أتممت الأمر، وإلا، فليغن الله تعالى كل من سعته،ويرزقك من هو خير منه، ويرزقه من هي خير منك.
أرجو أن تجدي فيما كتبت لك شيئا نافعا، وفي انتظار تعليقك على الكلام.
- د. مسعود صبري