استشاراتالدعوة

والدي يتعامل بالربا

  • السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أنا شاب من الطبقة المتوسطة، لي ثلاثة إخوة وأخوات، أحدهم معي في الجامعة وأحدهم في المرحلة الابتدائية، وآخر في الثانوية، وكلنا نتعلم بمصاريف مدارس وجامعات.

أبي في الستين من عمره وهو متقاعد بعد أن أُخرج من منصبه العالي في الدولة قبل عدة سنوات بسبب أمانته ونزاهته.

المشكلة أنه يضع جزءا كبيرا من ماله كودائع في البنوك الربوية، كما أنه لا يدفع زكاة ماله وبالكاد يخرج الصدقة.

أنا أتفهم الضغوط التي يخضع لها، فراتبه التقاعدي لا يغطي إلا ربع المصاريف الشهرية، وهو يعتمد على الودائع التي يضعها واستثماراته في محافظ لتلك البنوك في سد النقص الكبير في المصروف، إضافة إلى دخل غير ثابت وقليل من عقارات ورثها.

ومع تصاعد تكلفة المعيشة بشكل مضطرد -وفي الآونة الأخيرة خصوصا- إضافة إلى أنه لازال هناك تعليم إخوتي وزواجهم، ومع عدم وجود مورد رزق جديد متوقع سوى عملي، فقد وفقت لإيجاد عمل بشكل سريع بعد تخرجي،  فإنه يصعب عليَّ جدا إقناع أبي بإيقاف المورد الحرام.

بالطبع أبي في الغالب يسوق أعذارا الرد عليها موجود، مثل دفعه الضرائب كبديل عن الزكاة، أو أنه يأخذ بالفتاوى التي تجيز ودائع البنوك، وأن الفائدة التي يأخذها بالكاد تغطي معدل التضخم. وقد تعبت من كثرة سوق الأدلة الشرعية وتذكيره بأن الرزق مكتوب ومحدد من الله، وأن ما يأتي بالحلال هو نفس الذي سيأتي بالحرام مع فرق غضب الله ومحق الربا، وهو ما نلمس أثره في أمور كثيرة في حياتنا. وعندما أحاصره بالردود يعود إلى تذكيري بصعوبة الحال وما سبق أن بينته، وغالبا ما يحتد النقاش ويغضب أو يكتئب، حتى أنني صرت أتحرج أو بالأحرى أتجنب الخوض معه في الموضوع، خاصة وأنه في الستين من عمره ويعاني من مضاعفات متعلقة بالتدخين، وسبق أن أصيب بجلطة خفيفة في القلب.

بقي أن أذكر أنه كان قد عانى من فترة صعبة في صغره، حينما اقترض والده ليستثمر في زراعة أرض وقام الصهاينة بتدمير المزروعات لاحقا، مما عرض عائلة جدي لضغوطات مالية شديدة الصعوبة في حينها بعدما كانت الحال ميسورة،  و أظن أن ذلك ترك أثرا عميقا في نفسه حينها.

ما العمل؟ و كيف أدعو أبي؟

وبصراحة أنا لا اعلم ما ستكون عليه ردود أفعال أهلي إن وافقني، حتى أنني صرت أخاف أحيانا من نتائج أن يستجيب لي.

 

  • الجواب:

الأخ العزيز..

اجعلني أمهد للإجابة بأمرين:

الأول: هذا الحرص الإيماني على حِل الطعام والشراب والمكسب، فهذا من علامات الإيمان الصادق، ولهذا حين طلب سعد بن أبي وقاص من الرسول صلى الله عليه وسلم: اجعلني مستجاب الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: “يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه عمل أربعين يومًا، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به” [رواه الطبراني].

 

الثاني: أنه يجب علينا أن ننظر في مشكلاتنا بشكل شمولي، فليست القضية هنا أنها حكم بالحِل والحرمة، ولا أن نقنع الناس، ولهذا كان من وصايا الإمام ابن القيم في آداب المفتي أن يدل على البديل المباح عند الفتيا بالمحرم، فقد حرم الله الزنى، وأباح الزواج، وحرم شرب الخمر والمسكرات، وأباح ما عداهما من المشروبات التي لا تكاد تُعد ولا تُحصى، وحرم أكل الخنزير والكلب والميتة وكل ذي ناب من السباع، وما سواها فهو مباح، فتكون دائرة المباح أوسع بكثير جدا من دائرة الحرام (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌۢ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ).

وهذا هو المدخل الصحيح للتقويم والدعوة، وأن يتجاوز خطاب الدعوة بيان الحكم بالحل والحرمة، إلى أن يوجد البديل، وأن تظهر الإجراءات التنفيذية العملية التي تساعد الناس على أن يعيشوا حياتهم،

  • فكل مقصد بشري فطري هو موجود في الإسلام، وإنما يكون العجز في بيان الأمر، ولهذا أسباب، منها:

1- الحمية والعصبية دون التروي.

2- الفهم السيئ لمعنى التوكل على الله، فكل ترك للحرام لا يلزم معه أن يكون الناس فقراء لا يجدون ما يأكلون، بل من التوكل البحث عن البدائل المباحة.

3- عدم اندماج فكر الدعاة في بعض المواقف مع واقع الناس ومعاشهم، وكأن نصوص الشريعة مسلطة على رقاب الخلق، وهي في ذاتها رحمة كما تثبت هي ذاتها، وكما بيَّن ذلك علماء الشريعة سلفا وخلفا، فالناظر لشريعة الإسلام يجد أن الأصل في المعاملات الإباحة؛ لأنها تحقق مصالح العباد، باستثناء بعض المحظورات من التعامل بالربا والغش والتدليس وغيرها، وهذا يعني أنه في تعاملنا مع قضايانا هناك اتجاهان:

الأول: هو إنزال النصوص – مع اختلاف الفهم لها – على الواقع.

الثاني: النظر إلى واقع الناس وتصحيح مواقفهم وفق الرؤية الشرعية.

والأول – في ظني – يمثل بيان الأحكام الشرعية، بينما يمثل الثاني اتجاه الإفتاء، خاصة في جانب المعاملات المالية، وهو – في حسبي- يحتاج إلى جهد كبير من علمائنا في تنظيرها، ثم تفعيلها في واقع الناس.

 

  • وفي مشكلتك التي تتحدث عنها، لي ملاحظات:

الأولى: أنه من الواجب عليك إيصال الثقة بالله واليقين به والتوكل عليه إلى قلب والدك، وخاصة فيما يخص مجال الرزق، وقد يكون هذا من خلال بعض الشرائط، وممن يجيد الحديث إلى قلوب الناس أو ممن يتقبلهم من الدعاة، ليس فحسب ممن يجيد الحديث، ولكن ممن له قبول عنده، فهذا تمهيد للتغيير.

 

الثانية: البحث عن بنوك إسلامية، أو – على أقل تقدير-  فروع إسلامية يمكن نقل المال إليها، والاستفادة من الأرباح، حتى تيسر على والدك أمور المعاش، فإخراج الناس من الحرام إلى الحلال المباح واجب. وعليك أن تجتهد، وتعرف عناوين تلك البنوك وفروعها وكيفية التعامل معها، بحيث يكون معك بيانات كاملة عند استفسار والدك عن الفارق بين هذا وذاك، وكيفية التعامل مع البنوك الإسلامية أو الفروع الإسلامية من البنوك الأخرى.

 

الثالثة: إشراك إخوتك معك في حل تلك المشكلة الاقتصادية، فقد يكون هناك تفكير بقيام مشروع صغير يدر على البيت دخلا، أو قيام بعضهم ببعض الأعمال التي تدر له مصاريف الدراسة مثلا، أو العمل في الإجازة الصيفية، للابتعاد عن الحرام أو ما فيه شبهة، ولتتكاتف الأيدي في إيجاد حل، فإن الحاجة والفقر يدفعان والدك للتعامل مع البنك الربوي، توفيرا للقمة العيش المكلف بها، وهو ابن الستين عاما، ومن في سنه قد يكتفي بالجلوس في بيته، وينتظر أن ينفق عليه أولاده.

 

الرابعة: قد يكون من المقبول لو اضطررت أن تقبل زكوات الأموال لإخوتك؛ لأنهم طلبة علم، كما نص على ذلك كثير من الفقهاء، ولا يجد الإنسان حرجا في نفسه، فقد عبر الله تعالى عن ذلك بالحق لهم (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)، وكما قال تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين…)، ومن تلك الحاجات الهامة في حياة الناس الحاجة للعلم، وتغيير تلك الثقافة التي ترفض المباح ولو كان زكاة، فإن هذا خير من أكل الربا في التعامل مع البنك الربوي، كما يذهب إليه جمهور الفقهاء، وكما هي الفتوى الصادرة عن المجامع الفقهية.

 

الخامسة: اعتماد ثقافة الاقتصاد، فقد يعيش الناس كفافا، على أن يحفظوا دينهم، ولهذا جاء في الحديث: “ما عال من اقتصد” (رواه أحمد)، فالواجب ألا تحملوا الوالد إلا الضرورات والحاجيات، وأن تخففوا من الأمور الكمالية، حتى إذا تخرج إخوتك، وجرى الرزق بين أيديهم اشتروا ما يشاءون ما دام مباحا.

السادسة: الجلوس مع إخوانك والتفكير في كيفية حل المشكلة، فربما تجد عندهم ما ليس عندك، وكذلك أيضا طرح الموضوع على من تثق فيهم ممن تظنهم صالحين.

 

وفي الختام أهمس في أذنك بقولي: إن كنت تخاف من استجابة والدك لك، وأنت الذي تدعوه إلى هذا الأمر، فإن هناك خللا في نفسك، واجب عليك علاجه، وأن يكون توكلك على الله أعلى مما أنت عليه بكثير، فعندك اقتناع فكري وعقلي، ولكن الاقتناع القلبي يحتاج إلى مزيد دفع وجهاد منك، امتثالا لأمر الله : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين).

 

وفقك الله وأعانك، وفي انتظار أخبارك، ولا تنسنا من صالح دعائك.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى