استشاراتالدعوة

من الجامعة إلى العمل.. الكنترول بيدك

  • السؤال:
أيها الناصحون لي في الله جزاكم الله خيرا، وبارك في هممكم ووقتكم..

وحتى لا أطيل فإنني سأطرح سؤالي في نقاطٍ راجية من حضرتكم الإجابة عليه بأسرع وقت ممكن:

1- أنا فتاة ملتزمة بالزي الشرعي الكامل، ومؤدية للفروض، وقد التحقت بركب الدعوة منذ سنوات قليلة، وأجواء الأسرة عندنا أجواء أخلاقية عالية، واتجهت منذ سنوات قليلة إلى التدين كذلك رغم انفتاح أجواء العائلة الكبيرة التي تضم أسرتنا، وأعيش في قرية ذات عادات وتقاليد نوعا ما ملتزمة، وقد تدرجت في التزامي منذ كنت في عامي الـ 15 إلى أن أعانني الله على ما وصلت إليه اليوم من العمل في الحقل الدعوي.

2- درست الهندسة، وأنا الآن أعمل مهندسة ميدانية، أي في الموقع في القرية.

المشكلة:

ألاحظ أني اختلفت في علاقاتي -وخاصة مع الرجال- وتعاملاتي، حيث إنني كنت لا أتفوه ولا أتخيل أن أتفوه بكلمة مع أي أخ أو رجل ملتزم إلا للزوم.

أما الآن، فنتيجة اختلاطي بالعمال فأنا أحادثهم بكل أريحية، مع العلم أني لا أخاطبهم في أي أمر خارج أمور العمل، ولا أمازح أحدا البتة، ولا حتى أوجه النصح لأحد إذا ما تلفظ بأمر قد يكون مخلاً شرعا، ولكني أضطر كثيرا إلى سؤالهم حول أمور الشغل، ويضطرون إلى مهاتفتي إذا ما حدثت مشكلة، وكثيرًا ما أشعر بالضيق من هذه الأريحية في التعامل التي ما كنت أسمح بها إطلاقا في نطاق الجامعة، حتى في الأمور الأكاديمية مع الزملاء، وحتى الملتزمين منهم.

كما أن رب العمل، وكما يقولون “ذوق جدا”، فذات مرة قام بإتمام معاملة لي في أمر خارج عن نطاق العمل..

الأمر الذي جعلني أعيد النظر في نفسي، ومحور علاقاتي، وكيفية تقبلي لأمور الحديث، وتدخل الجنس الآخر في حياتي ممن ليس لي بمحرم، كما أن قضية غض البصر كانت مضبوطة أكثر، أو هي مضبوطة أكثر خارج العمل، فأنا أضطر إلى النظر للعامل لشرح أمر ما، مع العلم أني أصرف نظري كثيرا إلى الجزء الإنشائي المشروح عنه، غير أني ولأمور التركيز أضطر إلى النظر إليه عند الحديث كما كنت أعمل مع أساتذتي في المحاضرات.

ومنذ أن استلمت عملي وأنا لا أقوم الليل إلا قليلا، مع أني كنت مداومة عليه.. هل هذا لأني أتعب كثيرا في عملي الميداني، وقد كنت قبل هذا في راحة؟ أم هي عقوبة لآثام أفعلها؟ أم ماذا؟

فأسهبوا في نصيحتي وفي تداركي بأي خاطر نصحِّيٍ يفيدني بالتزامي وفي أمور طاعاتي وعباداتي.

 

  • الجواب:

الأخت الفاضلة؛

أشكر لك حرصك على إيمانك، وهذا من علامات الإيمان الصادق إن شاء الله.

أنا معك أننا نختلف من مرحلة لأخرى..

فمرحلة الدراسة هي مرحلة الأخذ بالعزائم، وترك الترخص في الغالب في محيط المتدينين، وأظن أن هذا له إيجابياته في مرحلته، إذ مرحلة الجامعة هي مرحلة المراهقة، والانفتاح على الجنس الآخر قد يكون له أضراره النفسية والاجتماعية، وقد يؤثر هذا على المستوى الدراسي وغيرها من مجالات الحياة، والتوسط في الأمور دائما خير، فإنه كما يقول العلماء: “الأمور بمقاصدها”، يعني إذا كانت هناك ضرورة أو حاجة للكلام في إطار الدراسة -مع الالتزام بآداب الشرع- فلا بأس بهذا، والكلام بين الجنسين ليس محرما في ذاته، فنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية ناطقة بإباحة هذا، وهذا يكون في الإطار العام وبلا خلوة، فنحن لا نريد أن نقسم المجتمع إلى مجتمعين: مجتمع رجالي، ومجتمع نسائي.

لكنه مجتمع واحد فيه الرجال والنساء، والشباب والفتيات، وإن كان لك جنس خصائصه.

وقد يكون الأخذ بالعزائم مطلوب في بيئة مناسبة لهذا مثل المرحلة الجامعية، ومع الانتقال إلى عالم الحياة العملية في العمل بعد التخرج يجد المرء نفسه مرغما على أن يغير بعض ملامح حياته، ولا يعني هذا أنه يتحول إلى سلوك خاطئ، فربما لم يكن هناك حاجة للحديث مع الجنس الآخر والتعامل معه في المرحلة السابقة، ووُجدت هذه الحاجة في محيط العمل العام، وخاصة فيما يتعلق بطبيعة التعامل مع الجنس الآخر، لأن طبيعة الحياة العملية تجبر الجنسين على التعامل، ومن كان متحفظا لدرجة كبيرة قد يجد في نفسه انفتاحا أكثر ممن كان يتوسط في معاملاته، يعني أنت كفتاة لم تكوني تتكلمين مع أي شاب، ولو في مساحة مسموح بها شرعا، ولكن مع انخراطك في الحياة العملية وجدت نفسك مختلفة، وهذا شيء طبيعي لا يدعو للقلق، لكن المقلق هو أن يتعدى التعامل مع الجنس الآخر إلى معصية، هنا يكون مكمن الخطر، وإن لاحظت نفسك تتعاملين بانفتاح أكثر، فهذا يعني أنك كنت متحفظة بشكل أشد، والانتقال من عدم التعامل إلى التعامل لا يجعلك في ذلك القلق، ولكن تعدي الحدود من الحلال إلى الحرام فهو –كما قلت- ما يوجب الخوف والحذر.

فالإسلام لم يحرم التعامل بين الجنسين، والصدر الأول في الإسلام يشهد بعشرات ومئات المواقف من التعامل بين الجنسين، ولم يحرمها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما حرم العلاقة الخاصة في غير الزواج.

وأذكر لك هنا ما حدث بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء رضي الله عنهما، حين ذهب إليه سلمان رضي الله عنه ليزوره، فوجد زوجته في حالة غير جيدة، فقال لها: يا أم الدرداء! مالي أراك مبتذلة؟ “يعني أنك لا تهتمين بملابسك وهيئتك”، فقالت: أخوك لا حاجة له في الدنيا، يصوم النهار ويقوم الليل؛ فلما قدمت لهم الغداء، رفض أبو الدرداء أن يأكل لأنه صائم، فطلب منه أن يأكل معه، فأكل، ولما كان من الليل أراد أن يقوم أوله، فطلب منه أن ينام، فلما كانت آخر ساعة قبل الفجر قال: الآن قم، فقاما فصليا، ثم قال له: “إن لربك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، فأعط كل ذي حقه حقه”، فلما كان الصبح أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بما حدث، فقال: (صدق سلمان) والرواية في صحيح البخاري.

والشاهد أن سلمان تحدث مع أم الدرداء بسؤال قد يكون مستهجنا في أعرافنا، وقد لا نوافق عليه في كثير من الأحيان، لكنه لما كان قصد سلمان رضي الله عنه حسنا، ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه قوله، بل أقره فيما علّم أبا الدرداء من التوسط في الأمور، والاندماج الاجتماعي الذي تحيطه تقوى الله تعالى ومراقبته وحسن النوايا والنصح بإخلاص للمسلمين.

أختي الفاضلة؛

راجعي نفسك بنفس هادئة، وأمسكي بالورقة والقلم، وارصدي تصرفاتك بدقة، وانظري نفسك ومن يتعامل معك.. ساعتها، ستضعين يدك على نقاط الصواب والخطأ، وساعتها يمكن لك معالجة الخطأ إن كان موجودا.

واعلمي أن الفتاة هي التي بيدها محرك السلوك مع الشباب والرجال، وأن الرجال يتعاملون مع الفتاة حسب ما تتيح هي لهم من تصرفات، فـ” كنترول التعامل” بيدك أنت، فانظري إلى أي اتجاه تحبين أن توجهيه.

كما أن تعامل الفتاة قبل الزواج يجعلها أكثر تحررا، أما بعد الزواج فقد يكون أكثر انضباطا، والذي أطلبه منك أن تبحثي في قلبك، وأن تنظري أيضا من يتعاملون معك، فلو كان التعامل لا يخرج عن إطار الزمالة في العمل، يحيطه الأدب والعفة، فلا بأس بهذا التعامل، أما إن رأيت أنه تعدى الحدود، فأظهري الحدود الفاصلة في التعامل، مستعينة بالله تعالى، فقد يحتاج الأمر ساعتها إلى حزم، وقد يحتاج إلى كلمة طيبة مستندة إلى ثوابت ديننا من باب الدعوة، وليس الأهم هو رفض الخطأ كداعية، ولكن الدور الأهم هو تصويب هذا الخطأ، وهذا يتطلب جهدا دعويا قصيرا، إلا أن يخشى الضرر.. فالترك أولى.

حفظك الله تعالى، ووفقك لما يحب ويرضى.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى