استشاراتالدعوة

الطموحات العالية والعادة السرية

  • السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة، وبعد:

أنا شاب أدرس بالجامعة، وتربيت تربية إسلامية سليمة، وتشربت نفسي معنى العيش للإسلام والعمل لأجله.. لذلك أعمل في مجال الدعوة منذ الصغر، وبدأت في تحمل المهام والمسئوليات الدعوية منذ كنت في الثانوية.. وأنا على ذلك إلى الآن والحمد لله، وأحفظ قدرا كبيرا من القرآن، وأنا أيضا بارع بشدة في أحد المجالات التقنية، وأجتهد في تعلم المزيد منه نفعا للإسلام والدعوة.. طموحاتي هي أن يكون المسلمون هم رقم 1  في العالم في تخصصي الهندسي والتخصص التقني.

ولكن هناك عقبة واقفة في طريقي.. تدمر كل طموحاتي، استحييت أن أسأل فيها من أعرفهم من الدعاة والعلماء ببلدي.. العادة السرية؛ بدأتها منذ 4 سنوات، ووالله إني أعلم أنني ما كنت أعاقب من الله في دراستي أو في دعوتي إلا بسببها.. تبت إلى الله كثيرا، فعلت الكثير لأتوقف عنها ولكن لا جدوى، كنت أتوقف عنها لمدة طويلة ثم أعود.. دعوت الله، أكثرت من الصيام حتى أني كنت أعاقب نفسي إن فعلتها بصيام أسبوع، ولكني لم أستمر في هذا العقاب، بكيت لله أن يا رب خلصني.. قمت برصد عدد مرات وقوعي فيها خلال الـ 29 يوم السابقة فكان 15 مرة خلال 15 يوم متفرقة، وكانت صلاه الفجر في المسجد لها 14 مرة خلال الـ29 يوم أيضا.. قمت أيضا بقراءة ردود الأسئلة عنها في المواقع الإسلامية المختلفة، أخذت بالأسباب وأنا أعلم أن الاستعانة بالله من أعظم الأسباب، أردت الزواج واستوفيت كل الشروط للتقدم للزواج إلا شرط أنه يجب أن أحصل على تقدير امتياز في الكلية “أو أكون الأول على دفعتي”، مع العلم أن ظروف المجتمع عموما تفرض هذا، حيث إنه من الصعب أن يتزوج أحد وهو يدرس بالجامعة في ظل هذه الظروف، إلا أن يكون لدية مصدر دخل وأن يكون متفوقا في دراسته حتى يُقبل للزواج وهو في هذه السن.. هذا الشرط لم أستطع تحقيقه بسبب العادة السرية التي أدت إلى انحدار مستواي الدراسي بشدة، أصبحت لا أستطيع الجلوس على المذاكرة أكثر من 5 دقائق رغم أني أريد أن أذاكر وعندي امتحان مثلا، أحاول ولا أستطيع، ولا أدري لماذا؟ والله إنني أجبر نفسي فلا أستمر أكثر من عدة دقائق، لدرجة أن أمي تشك أن بي عين أو حسد لما هو معروف عن شدة تفوقي الدراسي والشخصي على أقراني -مع العلم أن أمي ليست ممن يؤولون كل شيء بأنه عين أو حسد، وأحسبها من الصالحات ولا أزكي على الله أحدا.

أحس أن هذه العادة المقيتة أثرت على عقلي وعلى تركيزي وعلى عزيمتي وهمتي العالية، حتى أصبحت بليد الهمة والعزيمة، كما أثرت أيضا على كل أهدافي وطموحاتي، أعتقد أن المشكلة تكمن في الإمساك بزمام النفس، ولا أدري متى أتوقف نهائيا..

أنا أبعث هذه الرسالة وأنا أرى نفسي في منحدر شديد الانحدار آخره هوة عميقة لا قرار لها أوشكت أن أصل إلى نهايته.. أرجوكم يا شيخ ساعدوني على تخطي هذه العقبة!!

أعتذر عن الإطالة، ولكن هذا ما فاضت به نفسي لكم، وجزاكم الله خيرا.

 

  • الجواب:

أخي الحبيب؛

أحب أن أقولك لك: “إني أحبك في الله”..

وكم نسعد دائما حين نرى شباب المسلمين في تفوق دراسي، وهم يجاهدون أنفسهم أن يكونوا على طريق الله، ويسلكون طريق الدعوة إلى الله تعالى، فهذه من المحامد الكبيرة، التي زكاها الله تعالى في كتابه حين قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًۭا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ}.

أخي الحبيب؛

قبل أن أحدثك عن نقطة ضعفك وذنبك الذي تراه كالجبل، وهذه علامة صحة عندك، فدعني أناقشك في إطار أوسع..

إن كل إنسان في الدنيا عنده أعمال صالحة وأعمال سيئة، ومن الحكمة أن ننظر إلى أنفسنا بهذا المنظار الواسع، الذي يشمل كل الأعمال، فيعلي الإنسان ما حقه الإعلاء، وينزل ما حقه النزول، وما أحسن حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (إذا سرتك حسنتك، وساءتك سيئتك، فأنت مؤمن) رواه أحمد، وأنت عندك إيمان بالله تعالى ترى ذنبك كالجبل، كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم يكاد يقع عليك، ولكنك طبقت نصف الحديث ولم تطبق النصف الآخر، (إذا سرتك حسنتك)، وأنا أحتاج منك أن تجلس مع نفسك لترى حسناتك.. من صلاة الفريضة، ونوافلها، والصيام، والقرآن، والذكر والأذكار، وحسن الخلق، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والزيارة في الله، وزيارة القبور، والابتسامة في وجه إخوانك، وعون الآخرين على طاعة الله، وتعليم القرآن للغير، ونية التفوق الدراسي خدمة للدين، وأن يكون المسلمون دائما في تقدم، والصدقة، والصدق والأمانة، وغيرها من أعمال الخير، التي تشمل العقيدة والعبادة والأخلاق والسلوك والتعامل مع الآخر، فعندك كنز من الحسنات والأعمال الصالحة، كل هذه الأعمال يجب أن ننظر إليها على أنها نعم من الله، وأن نشكره سبحانه وتعالى عليها، وانظر قول الله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، فواجب علينا أن نفرح بنعم الله تعالى، ومن أعلاها وأهمها العمل الصالح، ولهذا قال الإمام ابن عطاء الله السكندري: “لا تفرح بالطاعة لأنها منك، ولكن افرح بها لأنها منه إليك”.

إن ميزان الله تعالى أن يهب الثواب للطائع، وأن يعاقب العاصي، فإن كان الإنسان يأتي الطاعات ويأتي السيئات، فمن غلبت حسناته سيئاته كان من الفائزين عند الله تعالى، والعكس بالعكس.

وتنمية الخير في نفوسنا يجعل الشر يتلاشى ويضعف، ومن وسائل علاج المعصية الانشغال بالطاعة والإكثار منها، لأن الإكثار منها يخرج المعصية شيئا فشيئا من حياة الإنسان.

ولا يظن الإنسان أنه سيكون يكون طاهرا من كل المعاصي، فهذا ضرب من المستحيل، غير أن المطلوب ألا يتعمد أن يقع في المعصية، وأن يسعى دائما للتطهر، فهو ربما يقع فيها من حيث لا يدري، وأقصد بذلك الصغائر، ولهذا فإن الله تعالى مدح المؤمنين حين قال: {ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰٓئِرَ ٱلْإِثْمِ وَٱلْفَوَٰحِشَ إِلَّا ٱللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ}.

وحين يقع في الصغيرة يجب عليه ألا يداوم عليها، لأنه كما قيل: “لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار”، لأن بقاء المعصية –وإن كانت صغيرة في الفعل– لكنها قد تجر إلى الكبيرة.

إن الصورة المثلى للمسلم أن يتوخى المعصية قدر استطاعته، وأن يكون كما قال الشاعر الحكيم:

واصنع كماش فوق أرض الشوق يحذر ما يرى ….. لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصا

وحين نصل إلى أن العادة السرية التي تأتيها هي معصية، غير أن الله تعالى منَّ عليك بأعمال صالحة كبيرة، نستطيع أن نتعامل مع هذه المعصية بحجمها، أما أن تكبر حجمها، وأن تكون هي كل حياتك، فإنها تكون كـ” الديناصور”، أو كشيء كبير ضخم يحتاج إلى قوة هائلة لتغلبه، وفي ظنك أنك لن تستطيع، فتهزم نفسك قبل أن تدخل المعركة، ولو دخلتها فإنك تدخلها مهزوما، ولا تجد إلا الهزيمة.

يا أخي؛

العادة السرية شيء تافه، وهي شيء يمكن التغلب عليه بشكل يسير جدا، ولكن حين تهزمها في نفسك أولا، ولا تضخمها ولا تعطها أكثر من حجمها، ساعتها تجدها كنملة يمكن لك أن تدوسها بقدمك، ولكن إن جعلتها فيلا، خبرني بالله عليك كيف تتعامل معها؟

وفي سبيل معرفة العلاج يجب أن تجلس مع نفسك جلسة مصارحة، تكشف فيها ما هو مخبوء ومستور في نفسك، وأن تسطره على ورقة بقلمك، وأن تكشف نفسك أمام نفسك بشكل واضح، ما الذي يدفعك إلى إتيان هذه العادة؟

لو أجبت على السؤال، فقد بدأت خطوات العلاج التنفيذي، أما لو هربت وأجبت: لا أعرف، فإنك تصعب عملية العلاج، وإن لم تكن تجعلها مستحيلة.

هذا السؤال أنت وحدك الذي تستطيع أن تجيب عنه، وبإجابة السؤال تكون قد شخصت حالتك، وساعتها يمكنك أن تقطع الأسباب لتحول بينك وبين الوقوع في هذا الشيء التافه.

ربما تنتظر أن أقول لك: لا تخل بنفسك، اصطحب أناسا صالحين، أكثر من قراءة القرآن، أكثر من الذهاب إلى المسجد، اشغل نفسك بتعلم شيء نافع.. فمع تقديري لكل هذه الأشياء، فهي أشياء صالحة ونافعة، لكنها أعمال مساعدة، وليست أفعالا أساسية، “نحن نحتاج حين نعالج وجع الرأس ألا نذهب للقدم نعالجها” كما يشير إلى ذلك فضيلة الشيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله، يجب أن نتعلم الصدق مع أنفسنا، وألا نحلق في آفاق الخيال، أو نهرب مخادعين أنفسنا، إن الصدق مع النفس، والعيش مع الواقع، والالتزام بآداب الدين، وحسن الصلة بالله ومراقبته تعالى في السر والعلن، وإدراك أن ديننا هو دين الحياة يحدث نوعا من التوازن في حياة الإنسان، ويجعله صريحا مع نفسه، يستطيع أن يقف مع كل شيء في حياته وقفة صادقة.

أخي الحبيب؛

إياك أن تجعل العادة السرية حاجبا لك عن دعوتك؛ لا تتعجب، فنحن في معركة، فإن كنت أرسب في شيء فعلي أن أنجح في أشياء، وسأنجح فيما رسبت فيه يوما، وسيبدل الله تعالى سيئاتي حسنات، فعض على دعوتك بالنواجذ، واستمرارك وبذلك في دعوتك سيجعلك محرجا أمام نفسك، وسيجعلك تستصغر نفسك.

فحين تريد إتيان العادة تذكّر دعوتك، تذكّر أنك قدوة، والقدوة لا يفعل مثل ما تفعل، تذكر أنك تحرم نفسك، ويا ليتك تحرم نفسك فحسب، ولكنك أيضا تحرم غيرك من خير كان سيساق على يديك، كلما أتيت هذه العادة.

فأكثر من الطاعة، وأكثر من الدعوة، وعالج نفسك بنفسك، واجعل في نفسك يقينا أنك ستنتهي من هذه العادة، وستعتبرها شيئا تافها في حياتك..

سامحني..

ليس علاج العادة السرية هو الزواج، وخاصة أنك ستتسرع فيه، يا أخي الزواج شيء، والتخلص من العادة السرية شيء آخر، يمكن لك أن تتزوج، ولكن ستتزوج تحت ضغط التخلص من عادتك السرية، وأنا أتعجب حين نقول: نريد الزواج للتخلص من العادة السرية!! هل شرع الزواج في الإسلام للتخلص من العادة السرية؟ هل هذا هو هدف الزواج في الإسلام؟

ما أفهمه أن الزواج شيء أكبر من هذا، إنه إنشاء مؤسسة اجتماعية على منهج الله تعالى ورسوله، لتكون الأسرة لبنة نافعة في المجتمع.

أخي الحبيب؛

ولست معك أيضا أن تدع العادة السرية تؤثر على دراستك وتفوقك، وأنصحك ألا تغلق الأبواب دونك بأن تجعل هذه العادة تتحكم فيك فتغلق عليك أبواب الخير، واعلم أن الدراسة هي عبارة جهد يُبذل، من بذل هذا الجهد وهبه الله تعالى التفوق، ولو كان من الكافرين والمشركين، لماذا ندخل في الدراسة ما ليس منها، ودائما نقول: إن معصيتنا تحول بيننا وبين نجاحنا، هل هذه سنة كتبها الله تعالى على عباده المؤمنين، ما الذي أدخل المعصية في المذاكرة؟؟

إن كثيرا منا في محيط الالتزام يخلط الأمور في بعضها، ويحمل الدين ما هو منه براء، فنرى الأخ الملتزم فاشلا، بينما ينجح ويتفوق آخرون لأجل عيون محبوباتهم؟؟؟

لا يا ناس، ليس هذا دين الله، فالله عدل، فكل من أخذ بالأسباب تفوق، وكل من تقاعس فشل، لا علاقة في ذلك بالتدين أو عدمه، التدين يزيد الإنسان بصيرة، يهبه الله تعالى بركة في الوقت وبركة في الفهم، لم يكن التدين يوما ما مانعا من التفوق، بل العكس، من تدين وجد فيوضات الله تعالى عليه، وحين نقول: إن معصيتنا منعتنا من التفوق، ونشيع هذا، فهذا يعني أننا نصد عن سبيل الله، فمن منا لا يعصي؟ ومن منا لا يخطئ؟

المهم، أن نضع المعصية في مكانها وحجمها، وأن نسعى لحلها، لكنها لا توقف مسيرة حياتنا..

فدعوتَك دعوتَك.. ودراستَك دراستَك.. وتفوقَك تفوقَك.. وطاعتَك طاعتَك..

أرجو أن تكون وجدت في كلامي شيئا نافعا لك، وأنا في انتظار التواصل معك، فكر فيما كتبته لك جيدا، وراجع على ضوئه أشياء كثيرة في حياتك، واستفد منها في مسيرتك في دعوتك وعلاقتك بالله تعالى وبغيرك..

نفع الله تعالى بك وبكل مخلص..

واعلم أن من نوى خيرا وفقه الله تعالى إليه {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}..

أكرر لك أني أحبك في الله، وسعيد بدعوتك، فاستعن بالله ولا تعجز

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى