استشاراتالوساوس

الوسواس لا العقل.. والعلاج لا القول

  • السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزاكم الله خيرا على كل ما تبذلونه من جهد..

لقد قرأت أغلب ما كتب في هذه الصفحة بما يتعلق بالوسواس وأنواعه، ولأني أعاني من مشكلة مشابهة فإنا لا أعرف أن أصنفها هل هي وساوس شيطانية، أم وسواس قهري، أم شك في الدين أم غير ذلك، أحببت أن أكتب لكم راجيا من الله عز وجل أن أجد عندكم جوابا شافيا يريح قلبي الذي أرهقته هذه الخواطر والتساؤلات.

أنا شاب متدين ومرتبط بالمساجد منذ صغري، مشكلتي هي مشكلة كثير من شباب هذه الأمة الذين “ابتلوا!!” بتحكيم العقل في كل شيء.. بدأ معي هذا الأمر من بواكير عمري (نهاية المرحلة المتوسطة)، فمثلا أذكر أنني حين كنت أقرأ القرآن الكريم وخصوصا في شهر رمضان المبارك كنت أتساءل (ويضيق صدري): لماذا كل هذا الحديث (المكرر) عن موسى عليه السلام وقصته وبشكل لا يوجد اختلاف بين هذه القصص إلا بكلمة واحدة في بعض الأحيان؟ ألا يجدر أن يكون بدل هذا التكرار آيات تعالج مواضيع في الاقتصاد مثلا؟

وقد كنت دائم البحث عن جواب لهذه التساؤلات بالقراءة والاطلاع، ولكن لا أصل إلى جواب يريح قلبي، بل وفي بعض الأحيان تزداد شكوكي أكثر أو تظهر تساؤلات أخرى.

وكبرت ودخلت الجامعة وبقيت هذه المشاكل تلازمني، وبدأت أحكم عقلي في مواضع كثيرة فتوقعني في شك، وأصبحت لا أجد جوابا لقضايا كثيرة مثل قضية تقاتل الصحابة في الجمل وصفين، ولماذا الجزم أن كل الصحابة عدول؟ ولماذا لم يصمد النموذج الإسلامي النبوي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم سوى سنوات ثم عاد بنو أمية ليحكموا مرة أخرى ولكن باسم الإسلام؟… وغير ذلك الكثير من الأحاديث النبوية والوقائع التاريخية، ناهيك عن مواضيع تخص العقيدة لا مجال لذكرها الآن.

وقد مَنَّ الله عليَّ منذ سنوات بأن أعيش في مكة المكرمة -شرفها الله- وبقربي إلى الله أكثر بدأت التساؤلات تزداد وتنغص عليَّ حياتي وتظهر لي في أمور كثيرة (منها على سيبل المثال حين أنظر إلى الكعبة، وأتساءل: إذا كانت هذه أقدس بقاع الأرض وأحبها إلى الله، فلماذا لم يكن لها الدور المركزي من بعد إبراهيم عليه السلام إلى أن جاء الإسلام، وكان هذا الدور المركزي في التاريخ للمسجد الأقصى؟).

إن هذه التساؤلات تسيطر عليَّ ولا أجد لبعضها جوابا يريحني، ولا أرجو من الله شيئا أكثر من أن يجنبني هذه الخواطر ويهدأ قلبي لأعبد الله براحة، وللعلم فإن هذه الخواطر لم تؤثر (بعد) على عبادتي ولكنها بصراحة تأخذ جزءا من حلاوة القرب إلى الله فيها.

لقد أطلت عليكم ولكني سأختم بذكر الخاطر الأكثر إلحاحا عليَّ منذ سنوات، وذلكم لإعطائكم فكرة أكثر عن مشكلتي علكم تصنفونها لي وتجدون معي لها الحل: أنا منذ سنوات دائم التفكير بهذا العالم الذي لا يدين أكثره بالإسلام، وعند قراءة القرآن الكريم أتساءل دائما:
لمن كل هذه الآيات؟ ولمن هذا الدين؟ فالقرآن يقرر أنه “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”؛ أي أن القضية المحورية لهذا الكون هي عبادة الله وهذا ما لا يظهر واقعا؛ فالعالم ستة مليارات، أكثر من نصفهم لا يدينون بدين، والنصف الآخر أغلبه غير مسلم، هذا إذا سلمنا أن المليار مسلم مسلمون عن قناعة.

ما أفهمه من القرآن والسنة أن الدين هو محور هذه الحياة، هذا لا يعني أن الأغلبية مؤمنون؛ فالقرآن يقرر العكس، ولكن أن يعرف الناس -كل الناس- هذا الدين ومن بعدها مؤمن وكافر، أما أن يبقى الإيمان الذي خلق الناس من أجله محصورا في الأقلية فهذا ما لم أفهمه.

لا تقل لي:
هذا تقصير من جانب المسلمين في الدعوة، وإن الله بعدله يحاسب البشر إذا بلغتهم الدعوة فهذا ليس مجال تساؤلي.

وحقيقة: كلما أبحث عن جواب لهذا التساؤل لا أجد؛ بل في بعض الأحيان أتشكك أكثر، وقد استمعت مؤخرا لأحد المشايخ في إحدى الفضائيات في تعليقه على موضوع مشابه أن الله سيبعث لمثل هؤلاء يوم القيامة رسولا يدعوهم فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن رفضوا دخلوا النار.

تصور هل هذه إجابة لمثل هذا التساؤل؟ وكأن الشيخ يتكلم عن عشرة أو مائة شخص تنطبق عليم هذه الحالة وليس مليارات من البشر وأغلبهم في عصرنا الحاضر؟ ولماذا ينتظر الله أن يبلغهم دعوته إلى يوم القيامة؟ وماذا كان هدف خلقهم ووجودهم في الحياة الدنيا، أكل هذه المليارات عبارة عن صراصير أم أنها ديكور لتكملة الدنيا، تعيش وتتكاثر وتموت، وما يهم ربنا هو فقط هذا المليار الذي أغلبه يدين بالإسلام على الفطرة؟

لقد أطلت كثيرا جدا، ولكن أرجو الله أن تكون مشكلتي أصبحت واضحة لكم، وأي استفسار مني سأبعث لكم به إن شئتم، المهم أن تساعدوني؛ فلا أريد أن تأخذ حياتي منحنى آخر أنا خائف جدا منه.

وفي الختام أرجو إن كان بالإمكان ومن خلال صفحة الفتاوى معرفة هل هذا الشك الذي أعاني منه يقع ضمن الشك الذي ذكره القرآن الكريم والذي يدخل صاحبه النار أم لا؟ علما أن صاحبه يحاول إزالته، ولكن لا يصل إلى قناعة؛ فهل نحن محاسبون على قناعاتنا؟ وجزاكم الله كل خير.

 

الجواب:

أخي،
ربما تستغرب إن قلت لك:
لقد سعدت بسؤالك، لا تتعجل؛ فإني من أكثر الناس إعجابا بكل من عنده سؤال ويسعى لمعرفته، ولا عجب في هذا؛ فقد جعل الله تعالى العلم مفتاح المعرفة، وأحب بداية أن أطمئنك أن ما أنت فيه لا يدخلك النار إن شاء الله؛ فالله تعالى عدل لا يظلم أحدا، وهو سبحانه ذو الفضل العظيم، ليس لمجرد شبهات عند الإنسان يوضع بسببها في زمرة الخارجين المارقين، أو أنه حين يقصر؛ فإن هذا التقصير يخرجه عن رحمة رب العالمين، حاش لله؛ فالله تعالى أرحم بعباده من آبائهم وأمهاتهم.

  • أحب بداية أن أجيبك عن الأمر بشكل كلي، ثم أناقش معك التفصيلات التي أوردتها في سؤالك.

أما عن الإجابة العامة فأحب أن تدرك أن كل إنسان منا عنده جوانب نقص وتقصير وعدم علم بالأشياء، والواجب عليه أن يسأل من يثق فيهم من أهل العلم، عسى أن يجد عندهم ما يزيل اللبس، حتى لو كان تساؤله يبدو غريبا في مجتمعه، فقد كان بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الشر، والناس يسألون عن الخير، وعلة ذلك خوفهم من أن يقعوا فيه.

كما أنه ليس كل شيء يتصوره الإنسان صحيحا؛ فقد تكون هناك من الأمور التي يشك فيها الإنسان أو يجهلها خطأ، وبالتالي يجب أن يهيئ الإنسان نفسه دائما أنه ليس كل ما يتصوره صحيحًا، ما لم يكن ثوابت لا تتغير، وطريق علاج ذلك العلم بالأشياء، وقد قال تعالى: “فَسْـَٔلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ”  وفي الحديث: “ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإن داء العي السؤال”.

ومن المعاني التي أحب أن أؤكد عليها معك أن الله تعالى يحاسب الناس على غالب أعمالهم؛ فمن زادت حسناتُه سيئاتِه فهو من أهل النعيم بإذن الله، ومن زادت سيئاتُه حسناتِه فحسابه على الله، إن شاء عذبه بما عصى، وإن شاء عفا عنه، ولكن من المسلَّمات عندنا أن أهل الملة لا يخلدون في النار، وقد جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى ينادي يوم القيامة: أخرجوا من النار مَن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.

وقبل الدخول في التفاصيل أحب أن أقول لك:
إن ما أنت فيه شيء طبيعي؛ فليست هذه وساوس حسب فهمي لطبيعة الوساوس، ولكنها تساؤلات؛ فلا تضعها في حجم أكبر من حجمها، فإن من الحكمة أن يجعل الإنسان ما يطرأ عليه في حياته في حجمه، حتى لا يتضخم ويمغص عليه عيشته وحياته، وإلا فسنجعل من حياتنا جحيما لا يطاق، فكثير من الناس يعذبون أنفسهم، ثم يتهمون القدر، وكأن القدر هو الذي أجبرهم على أن يعذبوا أنفسهم، وأن يجعلوا أنفسهم في هم وغم، والقدر من ذلك براء، فإنهم لو حولوا حياتهم إلى سعادة ما قال القدر لهم: لا.

  • أما عن التفاصيل التي ذكرتها

– فسأبدأ معك بالأهم، وهو قضية الخلق، وقوله تعالى: “وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ”، وأن أغلب الناس لا يعبدون الله تعالى؛ فلمن هذا الإسلام؟ ولمن هذه الدعوة؟

أولا نحن كمسلمين يجب أن نؤمن أنه لن يأتي يوم ويكون الناس كلهم مؤمنين، بل لا بد من وجود الإيمان والكفر، والحق والباطل، هذه طبيعة الحياة، أخبرنا القرآن بهذا، وأكدت السنن التاريخية أيضا هذا المعنى، والله تعالى هو الذي خلق الناس جميعا، وقد قال: “هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌۭ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌۭ”، ومن هنا جاء خطاب القرآن الكريم متنوعا؛ فإن كان الخطاب للمؤمنين نادى الله تعالى الناس بقوله: “يا أيها الذين آمنوا”، أما إن كان الخطاب عاما للناس جميعا بعيدا عن المعتقد، فإننا نجد الخطاب: “يا أيها الناس”، و”يا بني آدم”.

وهناك فكرة أتمنى من الله تعالى أن يوفقني في كتابة شيء فيها، وهي أن القرآن الكريم هو كتاب الله للإنسانية جميعا، مسلمهم وكافرهم؛ يعني أن حال الناس لن يصلح إلا بتعاليم القرآن، فإذا أراد الناس مسلمهم وكافرهم أن يعيشوا حياة سعيدة فعليهم أن يطبقوا تعاليم القرآن، سواء آمنوا به أم لم يؤمنوا؛ فمن أخذ به دون اعتقاد سعد به في الدنيا، ومن أخذ به مع الاعتقاد سعد به في الدنيا والآخرة، ومن هنا كانت رسالة الإسلام رسالة إنسانية في المقام الأول، وهي رسالة عالمية، والإسلام هو الدين الوحيد الذي يصلح للناس جميعا، وما سواه من الأفكار والأيديولوجيات لن يصلح به حال الناس إن اخترعوا ما يخالف القرآن، لهم أن يخترعوا في حياتهم ما يناسب حياتهم؛ فإن من الخطأ الزعم بأن الإسلام وضع أنفه في كل صغيرة وكبيرة كما ينادي بذلك كثير من الدعاة، ولكن القرآن جاء بقواعد عامة ليضبط منهج الحياة للناس، وما أروع القرآن الذي عبر عن كون الإسلام رحمة للناس، مسلمهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، وذلك نجده حين يخاطب ربنا رسوله: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.

ويجب أن نفرق بين الفرض والواجب، وبين ما يفعله الناس؛ إن الله تعالى فرض الإيمان به على الناس، لكن أغلب الناس لم يؤمنوا، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر “لا إكراه في الدين”، ولكنّ هناك حسابا وجزاء، إن الله تعالى لا يسلط على الناس ما يجبرهم على الإيمان به؛ لأن الإيمان والجبر لا يجتمعان، ولعل هذا يفسر تحمل الصحابة والمسلمين التعذيب الشديد عبر التاريخ في محاولات لإثنائهم عن دينهم، وإن المسلم ليضل بشيء من الترف في الحياة، ولكنه لا يضل بإجباره على ترك الإيمان؛ بل ربما كان هذا سببا في ثبات إيمانه.

يا أخي، إن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وقد أعطانا الله تعالى الحرية، ثم أوضح أنه سيكون هناك جزاء وحساب، وعلى كل إنسان أن يختار، وإيمان الناس لا ينفع الله، وكفرهم لا يضره، وقد جاء في الحديث القدسي: “لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا”، أنت تتحدث عن أرض؛ هي كوكب ضمن المجموعة الشمسية التي تتبع مجرة التبانة، والتي تتكون من ملايين الشمس، مع علمنا أن الكون يتكون من مليارات المجرات، ولا يعلم خلق الله إلا الله، ويخلق ما لا تعلمون، إننا لا يهمنا أن يكون عدد المسلمين كثيرا أو قليلا؛ لأن الإيمان هو في النهاية قضية شخصية، وفرق بين ما فرضه الله على الناس، وما يفعله الناس، ولكنهم في النهاية يحاسبون.

أما ما قاله الشيخ على الفضائية فقد روى البخاري عن علي -رضي الله عنه قوله-: “اليوم عمل بلا حساب، وغدا حساب بلا عمل”؛ فليس في الآخرة اختبار للناس؛ لأن الاختبار في الحياة الدنيا {تَبَـٰرَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ * ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًۭا ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْغَفُورُ}.

 

  • أما عن قصة موسى عليه السلام،

وتكرارها بشكل ملحوظ، حتى قيل: إنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “كاد القرآن أن يكون لموسى”؛ فليس عندنا في القرآن تكرار لا فائدة منه، ولربما لو رجعت إلى علماء التفسير وعلوم القرآن وقرأت عن التكرار في القرآن لعلمت أشياء مفيدة، ويمكنك الرجوع إلى ما كتبه الإمام السيوطي في “الإتقان في علوم القرآن” وكتاب “مناهل العرفان”، وما كتبه الشيخ القطان، وذلك مما كتب في علوم القرآن.

يا أخي، ليس عندنا تكرار في القرآن لا فائدة منه؛ بل لو تأملت بعقلك قليلا -وأنت ممن تقول تعمل عقلك، وهو شيء محمود، وليس مذموما- لوجدت اختلافات بين القصة وذكرها في موضوع آخر.

أما عن كون موسى عليه السلام تكرر قصته في مواطن كثيرة في القرآن؛ ففي ذلك حكمة، ومن ذلك أن موسى من أقرب الأنبياء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أمته من بني إسرائيل (اليهود) سيكون لها ارتباطات في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان ذكر أحداث موسى مع بني إسرائيل لتتعرف أمة الإسلام على هؤلاء القوم الذين ستربطهم بهم أحداث جسام، ولو أننا قرأنا قصص موسى في القرآن، وعرفنا أخلاق قومه ما كان هذا حالنا معهم، وما استطاعوا أن يحتلوا أرضنا، ولا أن يهتكوا أعراضنا، ولا أن يهدموا منازلنا، ولا مَدَدْنا لهم أيدينا بالسلام في وقت نحن أصحاب الحق المغتصب، ولعل الجراحات ما أكثرها في الحديث عن اليهود وما يفعلونه من شر للأمة وللإنسانية جميعا.

 

  • أما عن حديث القرآن عن مناحي الحياة،

فعندنا قوله تعالى: “مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلْكِتَـٰبِ مِن شَىْءٍۢ”، غير أن القرآن الكريم لا يذكر تفاصيل الحياة؛ لأنها متغيرة، ولكنه يضع قواعد عامة حتى تضبط لنا حياتنا، ثم إن واقع الناس متغير؛ فالاقتصاد في القرون الوسطى ليس كأيامنا هذه؛ بل أنت تدرك أن عجلة الحياة تتغير بشكل ملحوظ، ونحن في عصر ثورة الاتصالات، والإسلام لم يجئ ليضيق على الناس حياتهم، ولكنه جاء ليحقق مصالحهم، كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم في كتابه القيم “إعلام الموقعين عن رب العالمين”.

ولقد كتب الإمام الرازي تفسيره، وأوضح فيه أن القرآن حوى كل العلوم التجريبية؛ حتى قال عنه الإمام ابن تيمية: فيه كل شيء إلا التفسير، وذلك من فرط ما ذكر الإمام الرازي من علوم من الفيزياء والأحياء والكيمياء والفلك والنجوم وغيرها من العلوم التجريبية.

 

  • وأما عن قتال الصحابة وأحداث الفتنة؛

فالصحابة من حيث كونهم عدولا لا خلاف في هذا، غير أنهم ليسوا معصومين، هم بشر، ولعلنا يجب أن ندرك أسباب الفتنة؛ فتربص اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام بالأمة سبب هام في تفرقتها، والسبب الرئيس في الفتنة الكبرى عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي قلب الناس على الخليفة عثمان، ومع هذا فلسنا نرمي أحمالنا على غيرنا وحدهم؛ فقد استجاب الناس لهذا النداء الشيطاني من عبد الله بن سبأ، ومع هذا فإن الفتنة وإن كان بها شر؛ فهي درس للأمة من بدايات عصرها أن تدرك ما للتنازع والتقاتل من شر على الناس جميعا، كما أنه دليل على بشرية هذه الأمة، وأنها ليست ملائكية، ومع هذا فقد أخرج المسلمون لنا حضارة استفاد العالم كله منها، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة كالغيث لا يدري الخير في أوله أم آخره، وهذا يعني أن صلاح الأمة ليس حصرا على الأوائل وحدهم، وإن كان مما لا شك فيه أن الصحابة هم خير قرون الأمة.

على كل.. فالأحداث التي حدثت هي سلوك بشري، ويجب أن نفرق بين سلوك المسلمين، وتعاليم الإسلام؛ فالإسلام معصوم، والمسلمون غير معصومين.

ثم إن من رحمة الله تعالى أن كان لبني أمية القيادة العسكرية للأمة؛ فمن المعلوم لدى أهل التاريخ أن بني أمية كانوا أصحاب قيادة وخبرة سياسية وعسكرية، بخلاف بني هاشم الذين كانت لهم السيادة الدينية والروحية، وقد أبلى بنو أمية بلاء حسنا في الجهاد في سبيل الله، وكانوا سببا في نشر الإسلام في بلاد كثيرة.

 

  • أما ما ذكرت عن الكعبة المشرفة،

وما لها من مكانة، وهي أقدس البقاع، ومع هذا لم يكن لها السيادة ولا الريادة في العالم؛ ففي ظني أننا نخلط بين كثير من الأمور، إن الكعبة هي رمز السيادة الدينية، وليس عندنا نص في القرآن يوجب أن تكون سيادة العالم السياسية في مكة، إن الله تعالى خاطب الناس أن يطبقوا دستوره ومنهجه، ولتكن السيادة في أمريكا أو أستراليا أو أوربا أو أفريقيا أو آسيا، لتكن أينما تكون، المهم هو أن يلتزم الناس بشرع الله، وأن يطيعوه، وأن تكون الكعبة لها مركز الريادة الدينية، وأنها مكان للتوبة إلى الله تعالى، وأن يتطهر المسلم من أدرانه.

أما ملاحظتك على أن المسجد الأقصى هو الذي كانت له الريادة؛ فذلك بسبب أن الله تعالى فضل بني إسرائيل حين آمنوا بأنبيائه، في الوقت الذي كان فيه العرب يشركون بالله، وكان حول الكعبة التي هي أقدس الأماكن عشرات ومئات الأصنام والأوثان، ثم إن الخيرية لا ترتبط بمكان، إن الخيرية ترتبط بحال الأفراد والأمم، مع بقاء تفضيل الله تعالى لبعض الأماكن، ثم إن المسجد الأقصى والكعبة المشرفة والمسجد النبوي هي أشرف الأماكن كما نعتقد نحن المسلمين؛ لما جاء في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم من الإشارة إلى هذا، وعلى كل.. فلو أن الأمريكان أسلموا حكومة وشعبا، ورفعوا راية الإسلام وطبقوه كانوا أفضل عند الله تعالى من العرب، وميزان الخيرية بعيد عن الجنس أو اللون أو الوطن “إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ”.

سعدت بهذه التطوافة معك، وأرجو أن تكون وجدت في كلامي ما يزيل اللبس عندك، ويكشف لك بعض حقائق الأمور في طبيعة نفسك، وما يدور في خلدك.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى