استشاراتتقوية الإيمان

حائر بين الطاعات والذنوب

  • السؤال:

أنا أجد نفسي حائرًا فأنا شديد الإقبال على الطاعات، وشديد الإقبال على الذنوب. كيف أجد نفسي الحائرة؟ وكيف أعالج هذه المشكلة؟
  • الجواب:

الأخ الفاضل:
تمثل الأسباب والدوافع وراء السلوك الإنساني بوجه عام، وارتكاب الطاعات أو الذنوب بشكل خاص نقطة مهمة في تفسير هذا السلوك، وبمعنى مباشر: لماذا يطيع الناس ربهم؟ ولماذا يعصونه؟

إن وقوف الإنسان على معرفة هذا الأسباب يدعوه دائمًا أن يدعم طاعته بالله تعالى، ويوثق عراها، ويسعى لزيادتها وتثبيتها، بدلاً من أن تكون عارضًا “فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق”.

كما تمثل معرفة دوافع وأسباب المعصية جزءاً مهماً، بل الجزء الأهم في العلاج، وكيفية التخلص من هذه الذنوب والمعاصي؛ ولذا كانت معرفة النفس من أهم الصعوبات التي قد تواجه كثيرًا من الناس في حياتهم، حتى إنه لا يدري لماذا يفعل هذا الفعل، ومع كون الإجابة يجدها في نفسه هو، وقد يحتاج من يساعده في معرفة هذه الإجابة.

  • الذنب كالمرض يجب تشخيصه بشكل صحيح

وأظن أنك لست بحاجة إلى معرفة إتيانك الطاعات، ولكن تريد حلاًّ للابتعاد عن الذنوب والمعاصي والآثام، ونحب أن ننوّه أن الأمور العامة ليس شرطًا أن يجد الإنسان الحل فيها عند غيره؛ لأنه يخفي طبيعة هذه الذنوب، وحين يذهب المريض إلى طبيب يقول له: إني أشتكي كذا وكذا، وبنوع من التخصص، ولا يقول له: إني أشتكي كل الأمراض، أو عددًا كبيرًا منها.

وهذا يتطلب منك أن تجلس مع نفسك، وتمسك بالورقة والقلم، وترى الذنوب التي ترتكبها، ما هي؟ وأمام كل ذنب تنظر لماذا تأتي هذا الذنب؟ وتسعى قدر الإمكان أن توجد حلولاً لهذه الذنوب بشكل فعّال، حتى لا تعود إليها.

  • عالج موطن الداء لا غيره

إننا دائمًا نسرع في الإجابة عند السؤال عن المعاصي والذنوب بعمل بعض الصالحات، ونحن بالفعل نصنعها، إننا لا نتحدث عن شياطين الإنس، وإنما نتحدث عن أناس يأتون الخير كما يأتون الشر، ومن الحكمة حين نعالج أن نعالج موطن الداء، أو كما كان يعبّر الشيخ الغزالي -رحمه الله-: إذا كان الرأس يشتكي الوجع، فلا نعالج أقدامنا ونترك رءوسنا. فلا بد من علاج موطن الداء، ولا بأس بأن تكون هناك بعض المسكنات، أو بعض الأمور المساعدة؛ لأنها تصب في العلاج من طرف بعيد.

وهذا أيضًا مما هو متفق عليه في علم الطب، إن ما كان له ارتباط بالمرض يجب علاجه، حتى نهيئ للدواء أن يقوم بمفعوله في موطن الداء.

ولعل هذا ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، فكان العلاج الذي أشار إليه من أفتاه أن يرحل عن هذه القرية، وأن يذهب لقرية صالح أهلها، حين قال له: “انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء” رواه مسلم.

لقد حلّل هذا العالم بعد معرفته بالجاني موطن الداء، إن البيئة ذات تأثير كبير على الناس، فانظر من يعيش في جو كله معاصٍ، فلن نجد منه إلا ما يعيبه، أما من يعيش في جو إيماني، محاط بمراقبة الله تعالى، وبالصحبة الصالحة التي تعين الإنسان، فإن وقوع المعاصي، وإن لم يكن بالشيء المستحيل، إلا أن الثاني أبعد من الأول عن ارتكاب المعاصي؛ لأن البيئتين مختلفتان.

ويمكن أن نحاول تحديد أسباب الوقوع في المعاصي بشكل عام، ولكن يبقى الأمر في خصوصيته عندك، بحيث تستفيد من هذه الأسباب بما يناسبك بشكل مباشر، وأنت في ذلك مفتي نفسك.

  • من أسباب الوقوع في المعاصي

وفي الظن أن من أهم أسباب الوقوع في المعصية، هي:

1- البيئة المحيطة، والتنشئة، حيث يتأثر الإنسان كمخلوق اجتماعي بكل ما حوله، وخاصة في صغره، وكما قيل: من شب على شيء، شاب عليه. ولذا نجد أن الإسلام أمر بتدريب الصغار على الطاعة، مثل الصلاة، حين قال صلى الله عليه وسلم: “مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع”، كما كان الصحابة يعودون أبناءهم على الصيام، فيعطون أبناءهم اللعب تلهيهم عن الطعام والشراب، وغير ذلك من الطاعات.

وكذلك الحال في الأسرة، فهي إما أن تكون ملتزمة بمنهج الله، أو لا تفكير لها في طاعته سبحانه وتعالى، فيتأثر الإنسان بأسرته، كما يتأثر بأصدقائه؛ ولذا جاء في الحديث: “المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يصاحب”.

ولذا، فإن كانت البيئة المحيطة من الأسرة أو الأصدقاء هي التي تساعد على المعاصي، فيجب على الإنسان أن يتخير الأصدقاء الصالحين الذين يعينونه على طاعة الله ومرضاته.

2- البُعد عن موطن المعصية، بمعنى أن الإنسان حين يكون في مكان معين، فإن نفسه تتشوق إلى هذه المعصية، فيجب عليه ألا يذهب إلى هذا المكان، ما دام يمكن له الاستغناء عنه، أو لا حاجة حقيقية له فيه، وهناك فرق بين هذا السبب والسبب الأول، وهو البيئة المحيطة؛ لأن البيئة لا يمكن للإنسان أن يستغني عنها، فهي معه دائمًا، من المسكن ومكان العمل، أو مكان الدراسة، ولكن هذا السبب الثاني الإنسان يذهب إليه مع عدم حاجته إليه، أو في إمكانه أن يستغني عنه.

3- معرفة ما تحبه النفس وتهواه من المعاصي، فإن النفس دائمًا تركن إلى المعصية، وتتمنى اقترافها، وفي الظن أن هذا من أصعب الذنوب التي يجب أن يجاهد الإنسان فيها نفسه؛ لأن تعلق النفس بالشيء يجعله صعب الانفكاك إلا بمجاهدة كبيرة، وقد قال تعالى: “إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي”، يعني هذا أن النفس تأمر صاحبها بالسوء، وهي في ذات الوقت التي ستشهد عليه يوم القيامة “يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون”. ويأتي التخلص من هذه الذنوب بمجاهدة النفس وحرمانها ومنعها مما تحب وما يسوؤها؛ لأن هذا من علامات حب النفس، فمن أحب نفسه، حفظها وحماها مما يضرها، والنفس تطمح دائمًا إلى مصالحها، لا إلى مضارها. وغير ذلك من الأسباب التي قد تأخذ شكلاً من الخصوص عند كل إنسان.

  • عوامل مساعدة على الصبر عن المعصية

ولعل من المفيد إيراد ما يساعد الإنسان على الصبر عن المعصية، كما أوضحها الإمام ابن القيم، وإليك بيانها:

1- علم العبد بقبح المعصية ورذالتها ودناءتها، وأن الله حرمها ونهى عنها صيانة وحماية للعبد عن الرذائل.. كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره.

2- الحياء من الله… فإن العبد متى علم بنظر الله إليه ومقامه عليه، وأنه بمرأى من الله ومسمع، كان حييًّا يستحي أن يتعرض لمساخط ربه. والحياء أن تنفتح في قلبك عين ترى بها أنك قائم بين يدي الله..

3- مراعاة نعم الله عليك وإحسانه إليك، فإذا كنت في نعمة فارعها، فإن المعاصي تزيل النعم. من أنعم الله عليه بنعمة فلم يشكرها عذبه الله بذات النعمة..

 

4- الخوف من الله وخشية عقابه.

5- حب الله.. فإن المحب لمن يحب مطيع… ..إنما تصدر المعصية من ضعف المحبة..

6- شرف النفس وزكاؤها وفضلها وحميتها.. فكل هذا يجعلها تترفع عن المعاصي..

7- قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشئ منها، من سواد الوجه وظلمة القلب وضيقه وغمه، ..فإن الذنوب تميت القلوب..

8- قصر الأمل ويعلم الإنسان أنه لن يعمر في الدنيا، ويعلم أنه كالضيف فيها، وسينتقل منها بسرعة فلا داعي أن يثقل حمله من الذنوب فهي تضره ولا تنفعه.

9- مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه المفاضلات، ومن أعظم الأشياء ضررًا على العبد.. بطالته وفراغه.. فإن النفس لا تقعد فارغة.. إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره..

10- السبب الأخير هو السبب الجامع لهذه الأسباب كلها.. وهو ثبات شجرة الإيمان في القلب..
فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أقوى.. وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر..
ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط. انتهى.

أخي..

انظر إلى نفسك جيدًا، واعرف ما تحب وتكره، وزن ذلك بما يحب الله ويكره، وطوع نفسك على أن تحب ما يحب الله، وأن تكره ما يكره الله، وخذ بيدها برفق ولين حينًا، وبالاجتهاد والتعب حينًا، حتى تنتقل من نفس أمارة بالسوء -ولو بين الحين والحين- إلى نفس لوامة، واسعَ معها حتى تصل إلى نفس مطمئنة، وتذكر دائمًا أن خير العمل ما وافق الشرع والهوى، فانظر ما تحب نفسك من الطاعات، فربما كان سبيلاً لشغلها عن السيئات، ومن نوى خيرًا؛ وفقه الله تعالى إليه، وما ذلك على الله بعزيز.

واعلم أن الوصول لا يكون بقطع المسافة مرة واحدة، فاعتمد سياسة النفس الطويل، “فإن المنبت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى”.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى