- السؤال:
السلام عليكم.. لي تساؤل طالما دار في خاطري، وهو: “الفرق في الدعوة بيننا وبين عهد الصحابة الكرام”.. فنحن الآن على الرغم من القنوات الفضائية والمحاضرات والندوات وانتشار الكتب والإنترنت وغيرها من الوسائل الدعوية الكثيرة، فإن الدعوة لا يمكن بحال من الأحوال أن تقارن من حيث الانتشار والتقبل بما كانت عليه في عهد الصحابة الذين انتشر الإسلام على أيديهم خلال ربع قرن، ليشمل أجزاء واسعة من الأرض، على الرغم من عدم وجود هذه الوسائل المتاحة الآن. فيا ترى، ما الفارق بيننا وبينهم؟ أصحيح أنه الإخلاص؟ وهل يعقل ألا يكون في آلاف الدعاة اليوم مئات مخلصون منهم؟ فأين الخلل؟ وبالمناسبة ما هي وسائل الدعوة عند الصحابة الكرام؟ |
- الجواب:
الأخ الفاضل؛
هناك مسلَّمات يجب ألا نتخطاها ونحن نتحدث عن الدعاة في أزمنة مختلفة، من أهمها:
أن عصر الصحابة على الإجمال هو أفضل العصور بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) رواه البخاري، ولا يعني هذا أن هذه الخيرية على سبيل الإجمال والتفصيل معًا، فالخير في هذه الأمة إلى أن يقوم
الناس لرب العالمين، وقد زكَّى الله تعالى هذه الأمة حين قال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ}.
وهذا يعني ألا نضع في أذهاننا أننا لا يمكننا أن نصنع شيئًا مثلما صنع الصحابة؛ لأن المقارنة هنا غير صحيحة، إنما نقارن بعصرنا الذي نعيش فيه، وأن ننظر إلى تاريخ أسلافنا وأن نأخذ أحسن ما عندهم، وأن نجعلهم قدوة في الخير، وقد كان مجتمعًا إنسانيًّا فيه كل صفات الإنسان الذي خلقه الله تعالى،
فحين نتحدث عن هذا العصر يجب أن نعرف سماته، من:
- كونه عصر الوحي المنزّل.
- عصر التحول من الكفر إلى الإيمان، وهذا يعطي قوة في الدعوة، بخلاف الإنسان المسلم الذي يعيش في إسلامه، ولهذا نلحظ أن بعد عصر الراشدين بدأ يظهر شيء من الانحلال الأخلاقي وازداد شيئًا فشيئًا.
- أنه عصر التضحية التي يلزمها البناء الأول.
- أنه عصر التكوين.
- أنه عصر امتاز بالبداءة، وله سمات مؤثرة على الأشخاص والنفوس، مما يكون له أثر في قبول الدعوة التي تناسب الفطرة، فلم تدنسه المدنية الحديثة بشوائبها.
- أن الوسائل التي توصل الأفكار والدعوة كانت مباشرة، فلا تزال الدعوة الواقعية أكثر تأثيرًا من الدعوة عبر الإنترنت والفضائية، فالنزول إلى الناس وواقعهم، والبسمة في وجوههم، ومصافحتهم باليد، واللقاء المباشر والتواصل بين كل من الداعية والمدعو وغيرها لها تأثير لا ينكر في عملية الدعوة.
- يسر المعيشة، فالناس لا تحتاج من الدنيا إلا الطعام والشراب والمسكن والمركب اليسير، مما يجعل المرء غير مشغول بحاجاته الضرورية التي هي بطبيعتها قليلة ويسيرة، فيفتح له آفاقًا أخرى لمساحات أخرى في حياته، منها الدعوة إلى الله.
- طبيعة المعلم، فالعصر الأول كان المعلم فيه هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يوحى إليه، وأخذه منه الصحابة وعلم بعضهم بعضًا، وعلموا من بعده، والتلقي من المصدر الرئيس له تأثير أكثر بكثير من الابتعاد عنه؛ لأن صاحب الشيء الذي أتى به هو أعرف الناس به.
وغير ذلك من خصائص هذا المجتمع، وبالتالي حين ننظر إلى مجتمعنا يجب أن نقيس نجاح الدعاة بمقومات العصر، وليس بمقومات عصر آخر:
- 1- فهو عصر يمثل كثيرًا من التفاعلات بين الهزيمة والتبعية، وبين النصر والنجاح.
- 2- انتشار الانحلال الأخلاقي، وزحف ثقافة العري، وطغيان العواطف غير المنضبطة.
- 3- الحياة المدنية وعدم الاكتفاء بالحاجات الضرورية، بل هناك اهتمام بالتحسينيات التي قد يكون الناس في غنى عنها، مما يشغل حيزًا كبيرًا من وقت الدعاة ومن وقت المدعوين، فطاحونة الحياة تأخذ الجميع.
- 4- طبيعة الحياة المتشابكة والمنفتحة، مما يجعل هناك يسرًا في الدعوة، مع فقدان وسائل كانت أكثر تأثيرًا في الناس، فالعصر الماضي كانت الوسائل محدودة، ولكنها مؤثرة، وعصرنا قد كثرت فيه الوسائل، ولكنها أقل تأثيرًا مما كانت عليه في الماضي.
- 5- الجفاف الروحي الذي يعيشه الناس جميعًا، دعاة ومدعوين؛ نظرا لطبيعة الإعلام والسموات المفتوحة، واستغلال الشر لهذه الوسائل، وعدم استخدام الدعاة لهذه الوسائل بشكل فعّال.
- 6- سياسة الحكومات التي تحكم الدول الإسلامية، وهي في حقيقتها تحارب كثيرًا من مظاهر الإسلام، وتمنع قنوات كثيرة ربما كان لها أثر كبير في حياة الناس.
- 7- طبيعة عصر التبعية الذي يعيش فيه المسلمون، فنحن قوم ضعفاء سياسيًّا واقتصاديًّا، ولكننا أقوياء فكريًّا وإيمانيًّا، والتكامل مطلوب في الجوانب كلها.
- 8- أن هذا العصر أتاح لأناس أن يلتزموا كان من الصعب التزامهم، وأنه أدخل على أناس من مظاهر الإيمان والأخلاق ما لم يكن يتصور أو يتوقع، وهذا يعني أن هذا العصر خليط من الخير والشر.
والظاهرة كبيرة لا يسمح المجال بالتفصيل في تحليلها هنا، إذ تحتاج إلى مساحة أوسع وجهود أكبر، وعقول أكثر، ولكن هذه لمحات، حتى لا نظلم الدعاة في عصرنا، فالعصر فيه أمواج متلاطمة، ونحن نحتاج إلى كل جهد مخلص.
- د. مسعود صبري