استشاراتتقوية الإيمان

أعترف: التزامي مزيف!

السؤال:

أكتب إليك والألم يمزقني، وكنت أود أن أقول (والدموع تتساقط من عيني) لكن هذا للأسف لا يحدث؛ فلو حصل وترقرقت نصف دمعة في عيني فربما حُلت المشكلة بأسرها؛ وما كان هذا الخطاب.

أنا شاب في الثامنة عشر من العمر، لم أكن قط ملتزماً بحق؛ وإن كنت أعطي انطباعاً خاطئاً لمن حولي بالالتزام، كنت مدمناً للكثير من المعاصي، ولكني في رمضان الماضي تبت وأقلعت تدريجياً عن المعاصي، وبدأت الالتزام الحقيقي، وذقت لأول مرة في حياتي لذة الإيمان والطاعة ومقاومة المعاصي.

تعرفت على بعض الشباب الملتزمين في كليتي، واستمر الحال أربعة أو خمسة أشهر بعد رمضان، ثم أصابني فتور شديد؛ استمر طويلاً وجعل يزيد ويزيد، ثم انتهى بي الأمر للعودة من حيث بدأت.

نعم، عدت لإدمان نفس المعاصي، وتضييع نفس الفرائض؛ وكأن شيئاً لم يحدث، بل عدت أسوأ وأقبح مما كنت، وإذ جلست أنظر بروية وتفحص في فترة التزامي أدركت الحقيقة المرة: أنني لم أكن ملتزماً بحق أبداً؛ لأني وجدت فترات الفتور الإيماني أكبر بمراحل من فترات القوة والتوهج الإيماني.

ستقول لي إن الإيمان يزيد وينقص، ومن الطبيعي وجود فتور من حين لآخر، أقول لك: نعم، أعلم هذا ولكن الطبيعي أن يكون الأصل قوة الإيمان وتوهجه، ثم تعتريه فترات فتور طارئة. لكن أن يكون الفتور والكسل وضعف الإيمان هو الأصل؛ وفترات قوة الإيمان طارئة قليلة؛ كما في حالتي فمن المؤكد أن هناك مشكله.

المشكلة أني حاولت التوبة والعودة إلى الله ففشلت!!، نعم فشلت، وعجزت تماماً عن العودة، لم يكن لدي سوى الرغبة فقط، كانت أمنيتي أن أتوب، وأعود لله ولرحاب الإيمان، وأكون مسلماً بحق، مؤمناً بحق، وداعيةً إلى الله، وعاملاً لدينه كما ينبغي أن يكون.

وبالفعل حاولت أن أتوب، وأنا أعلم أن التوبة عمل قلبي بالدرجة الأولى، وأن الندم أساس التوبة والتربية الإيمانية، والسير إلى الله هو: الخوف من الله -عز وجل.

لكني لم أشعر بشي من هذا في قلبي، لا خوف ولا ندم ولا شيء، تفكرت في عظم ذنوبي وخطيئتي، وعظم من عصيت، دونت ذنوبي على الورق، زرت المقابر مرتين، تفكرت في عذاب القبر وأهوال يوم القيامة وعذاب جهنم، سمعت العديد من الشرائط والمواعظ عن الموت وأهوال يوم القيامة والآخرة، وشرائط عن الخوف من الله والخشية، وشرائط ترغب في التوبة وما إلى ذلك.

ولكن لم يحدث شيء لم أشعر بذرة خوف، أو ندم حقيقي في قلبي، لم أشعر بتلك الطاقة التي تنبعث من القلب؛ فتحفز الإنسان على ترك المعاصي والتوبة وفعل الخيرات. وكم كنت أتمنى هذا، كم كنت أتمنى..

أن تنزل من عيني الجامدة، ولو نصف دمعه أسفاً على ما فرطت في حق الله، أو مهابة له-عز وجل-؛ كي تعمل كشرارة لبدئ التوبة والعودة والإنابة الحقيقية، كشرارة تندلع في محرك سيارة كي تبدأ في حرق الوقود ودفع السيارة.

يبدو أن توبتي كانت توبة لسان كاذب. ما أقسى وأشنع هذا العذاب. أن ترى قلبك وقدميك يقودونك للنار ولا تستطيع تحريك ساكناً. أنا أعلم أن الهداية والتوبة والإيمان محض رزق وفضل من الله، يقذفه في قلوب من يشأ من عباده:{مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف:178). فماذا أفعل لو كتب علي أن أكون من الصنف الثاني؟

لا أدري إن كنت ستفهم ما أريد قوله وتفهم مشكلتي أم لا. إن الوحيد الذي يفهمني حقاً هو الله، وهو الوحيد الذي يستطيع حقاً مساعدتي هو الله.. هذا بالطبع إن شاء. إن شاء..

 

  • الجواب:

أخي الحبيب:

أقول لك من أعماق قلبي: أحبك في الله، نعم أحبك والله، وإني رغم ما ترى نفسك فيه من السواد، فإن شعاع الإيمان ينطق من كلماتك، والندم الذي أنت فيه لهو أول خطوة نحو طريق الإصلاح، أن تدرك أنك على خطأ، وأن نفسك لم تزين لك المعصية فتراها في عينيك شيئا مباحا.

إن طمس القلب يكون بتزوير الحقائق، ومادمنا نرى الخطأ خطأ فنحن أصحاء، ولو أخطأنا، ومن الذي لا يخطئ، إذ الخطأ طبيعة في البشر، ولو لم نخطأ لم نكن بشرا، إن حلاوة الإيمان في طاعة العبد لربه، بل وفي عودته إليه بعد معصيته له، وأنت تدرك فرح الله تعالى بعودة العبد التائب إليه سبحانه، مع كونه الغني عنا، إنه لا يريد منا أي شيء، بل يعطينا كل شيء.

أدرك معك خطر حالتك، وصحتها في ذات الوقت، فما أنت فيه من إدراك الخطر ظاهرة صحية، وما أنت فيه من المعصية المستعصية خطر، ومن الحكمة أن ترى الأمرين معا، وأن تبحث أيضا في نفسك عن نقاط الخير، فأنت لست شيطانا رجيما، بل إنسان فيه خير وإيمان، يفعل الطاعات، ويأتي السيئات، يضعف ويقوى، غير أنه يدرك ما هو فيه من الوهن، ويدرك صعوبة حالته.

ومدار حالك كلها على القلب، فهو لب المسألة، وأنت أدرى الناس بمداخله، بالطبع أنت سترت على نفسك، ولم توضح لنا ما تأتيه من المعاصي، غير أن هذا هو المفتاح الذي يدلنا على الطريق، إنك تأتي أعمالا من السيئات.

 

وهذه الأعمال لها علاج خاص، ليس دائما كما يقول علماؤنا حين يشتكي أحد إليه أن يلزم صلاة الجماعة وقراءة القرآن والصوم وغيرها من الطاعات، وإن كانت كل هذه أدوية نافعة، غير أنه يجب أن نعالج ذات الداء، لا أن نعطي مسكنات، لأن بقاء المرض وعدم علاجه يلغي مفعول هذه الأشياء، فلا تدخل في النفس، وتكون النفس ضعيفة المناعة، وإن كان في لغة الأطباء أن هناك استعدادات قبل إجراء العملية، تمهيدا للتخلص من بعض المعوقات التي قد تعوق نجاح العملية، ولابد أن نركز على المرض ذاته، وندرك أين الوجع، ونشخصه تشخيصا حقيقيا، ثم نبحث له بعد ذلك عن الدواء الناجع له.

كم أدرك أنني أكلم شخصا غير عادي، عنده معرفة كاملة، يستطيع إن وقف خطيبا في الناس أن يبكيهم، ولست أتحدث معك عن مدخل المعرفة، ولكننا في حاجة إلى قراءة النفس بشكل مفصل، يشبه عند علماء الحديث تمحيص الجرح والتعديل، نعرف كل شيء فيها، نقاط الضعف، ونقاط القوة، نقاط الجذب، ونقاط النفور، نقاط الصلاح، ونقاط الفساد…. إلخ.

أخي الحبيب:

رغم طول رسالتك، إلا أنها جاءت عامة جدا، والعموم دائما لا يخرج علاجا، بل لابد من التحديد حتى يمكن لنا أن نضع أيدينا على الداء، ولكني سأطرح عليك بعض الأفكار التي يمكن أن تستفيد منها جيدا، ومن ذلك:

  • لا تضع نفسك في دائرة اليأس، فاليأس قاتل، ولن يجدي شيئا، واجعل نفسك كتاجر تعرض للخسارة، غير أن بضاعته مازالت موجودة، ويمكن له أن ينشط من جديد، وأن يعاود المحاولة، بل ربما كانت السقطة دافعا للقيام والنهوض، ورب ذنب انتفع به صاحبه أكثر من طاعة.

  • اجلس مع نفسك، وأمسك ورقة وقلما، واكتب ما تأتيه من المعاصي والسيئات، وقسمه إلى كبائر وصغائر، و صنفه بين ذنوب الجوارح وذنوب القلوب، وابدأ بالكبائر قبل الصغائر، وبذنوب القلوب قبل ذنوب الجوارح.

  • اكتب الأسباب التي دفعتك إلى إتيان تلك المعصية، والدوافع المحيطة بها، ووسائل الإغراء في الوقوع فيها.

  • اقطع نفسك تلك الأسباب، فلا تعرض نفسك لها، وغير من بيئتك قدر استطاعتك، ولا تكثر الخلوة بنفسك.

  • ركز على قطع الداء أكثر من الانشغال بنوافل الطاعات، فكما قال صلى الله عليه وسلم “اتق المحارم، تكن أعبد الناس”.

  • ابق على كل خير تفعله، لا تخرج من الميدان، فإن كان لك ورد فواظب عليه، ولو بلا قلب، حافظ على  الأذكار ولو بلا قلب، حافظ على السنن بلا قلب، فعسى الله أن يرفعك من طاعة بلا قلب، مع طاعة بقلب وما ذلك على الله بعزيز.

  • جاهد نفسك، فأنت تعالج جراحا، وعلاج الجراح لابد فيه من الشعور بالألم، ومن ظن أنه سيعالج بلا ألم فقد وهم، اصبر وتمثل قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200).

  • استعن بإخوانك الصالحين كي يساعدوك، فالإنسان اجتماعي بطبعه لا يمكن أن يعيش وحده، وقد خاطب الله تعالى المؤمنين دائما بنداء الجماعة، ولزوم جماعة الإيمان حصن للإنسان من الشيطان.

  • عليك بالدعاء، فإن به تفتح الأبواب، وتيسير الصعاب، وييسر به العسر، ويزال به الهم، فهو سلاح المؤمنين، ولو كانوا مخطئين، وما أحسن ما قال يحيى بن معاذ رضي الله عنه: لا يمنعنك الدعاء ما تعلم من نفسك، فقد استجاب الله تعالى لشر المخلوقين إبليس، إذ دعا ربه:{ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِين َ}(الأعراف:14-15).

  • اقرأ في سير التائبين والصالحين، وتزود من حالهم لحالك، وخذ من علمهم لعلمك، واقتد بفعالهم في فعالك، فإنهم خير القرون.

وختاما؛

أخي الحبيب، تيقن أن علاجك – بإذن الله – قريب، وهو سهل يسير، على أن تأخذ له عدته، ولا تنس التعلق بالله، وإياك ثم إياك أن تهرب منه، فإن العبد إذا خاف شيئا فر منه، وإذا خاف من الله فر إليه، قال تعالى: “ففروا إلى الله”.

ليكن هذا شعارك، فر إليه، واختل به في ظلمة الليل، وارتمي بين يديه، واشك له دون سواه، وابق على عتباته، حتى يغفر لك ما كان منك، فإن لم تذهب إليه فلمن تذهب؟.. ولا تنسنا من صالح دعائك.. وتابعنا بأخبارك لنطمئن عليك.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى