استشاراتتقوية الإيمان

حال المؤمن وقت الفتنة

  • السؤال:
سيدي الشيخ الفتن قد أحاطت بالعالم الإسلامي شرقا وغربا فما هي الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى المسلم بها في وقت الفتن؟ وما يجب علينا فعله في هذه الآونة العصيبة، لنحتمي من هذه الفتن؟

 

  • الجوب:

الأخ الفاضل:

لو كنا نتحدث عن مساحة التنظير للمسألة، فيمكن لكبار علمائنا أن يوضحوا وسائل الخروج من الفتنة للأمة، غير أنه من المفيد أن ننظر نحن الصغار إلى أنفسنا، وأن نتحدث في مساحة التغيير والحماية الفعلية لواقعنا الصغير، ومن هذا الواقع الصغير يتجمع لدينا إسهام لا بأس في التغيير الكبير.

ولهذا، فإننا سنجيبك في هذه الاستشارة عن محورين المحور العام، والمحور الخاص.

 

  • أما عن المحور الخاص:

فإن الفتن التي يتعرض لها آحاد الناس تختلف من شخص لآخر، فهناك من الناس من يتعرض لفتنة المال، وقد ذكر القرآن الكريم قصة قارون حين قال عن ماله: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلْمٍ عِندِىٓ}، وفتنة المال من أكبر الفتن التي تتعرض لها الأمة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: “فتنة أمتي المال.”

ومن الناس من يتعرض لفتنة النساء، وقد حكا القرآن الكريم عن هذه الفتنة، و أثرها في تغيير سلوكيات البشر، أو ثباتهم، وأوضح أنها من أشد الفتن على الإنسان، حين أشار القرآن إلى هذا  بعد عرض قصة يوسف – عليه السلام – مع امرأة العزيز: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌۭ}.

وهناك من الناس من يتعرض لفتنة الإعجاب بالنفس، والفرح بكل ما يفعله الإنسان، وأن يحب الإنسان ظهور نفسه في صورة هي أكبر من حجمه الطبيعي، وقد أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: “المتشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور”، وأشار إليها القرآن الكريم بوصفه لهذه الفئة: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا۟  بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا۟ فَلَا تَحْسَبَنَّهُم بِمَفَازَةٍۢ مِّنَ ٱلْعَذَابِ}.

وهناك من يتعرض لفتنة الجاه والسلطان، وحبه للمناصب الرفيعة، وإن لم يكن قادرا عليها، وليس له فيها شيء، إذ هو ليس من أهلها، ولهذا حين طلبها أبو ذر رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: “استعملني يا رسول الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها.” وهذا خلاف من لا يرى في نفسه عجبا، ويجد في نفسه القدرة على نفع المسلمين، فهؤلاء لهم أن يتقدموا من باب الإنقاذ والسعي للإصلاح، وتحقيق مسيرة الإصلاح في الأرض، وهذا ما عبر عنه يوسف عليه السلام، حين قال لملك مصر {ٱجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلْأَرْضِ ۖ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌۭ}.

وغيرها من الفتن التي يتعرض لها الأشخاص، فهذه الفتن يجب أن نواجه كل فتنة بالوسائل المناسبة لها، ففتنة المال تقابل بتحري الحلال، وأن يوجد الإنسان لنفسه البديل عن الحرام،فهو يبتعد عن الحرام والشبهة، ويطرق أبواب الحلال التي تجعله في غنى مقبول عند الله سبحانه وتعالى، يحصل عليه الإنسان من كده وتعبه، وينفقه في أوجه الخير، ويعلم أنه محاسب عليه مرتين: “من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟”.

وفتنة النساء تكون بالعفة والطهارة ومراقبة الله تعالى، وبالبديل المباح وهو الزواج، وغيرها من الوسائل المباحة.

وهكذا في كل فتنة.

ودور آخر من الأدوار التي تنبع من واقع المجتمع في مواجهة الفتن أن نرشد الناس إلى ما نعرفه، وأن نوضع لهم سبل النجاح، والأخلاق التي يجب أن يتحلى بها كل منهم في فتنته، ومن مجموع هذا تكون الأمة قد تحركت لمواجهة الفتنة، وتحلت بالأخلاق الفاضلة المناسبة لوقت الفتنة.

و أما عن المحور العام فنحيلك إلى ما قاله فضيلة الشيخ محمد صالح المنجد من علماء المملكة العربية السعودية، حيث يقول:
للفتن أخلاق يجب التحلي بها حتى لا تؤثر تلك الفتن سلبا على الإنسان، أو يكون هو بنفسه يؤثر سلبا على جماعة المسلمين..

 

  • ومن تلك الأخلاق:

أ- التأني والرفق والحلم وعدم العجلة:
فالتأني والرفق والحلم عند الفتن وتغير الأحوال محمود لأنه يُمكِّن المسلم من رؤية الأشياء على حقيقتها وأن يبصر الأمور على ما هي عليه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه) رواه مسلم. وقال عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة) رواه مسلم ( 24 ).

فعلينا جميعاً بالرفق في الأفكار والمواقف وفي كل ما يجدّ من الحوادث وعدم العجلة فإنها ليست من منهج الأمة الإِسلامية وخاصة في زمن الفتن.

‌ب- ‌الصبر:
نحتاج إلى الصبر كثيراً، وخصوصاً عند الفتن. يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍۢ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍۢ مِّنَ ٱلْأَمْوَٰلِ وَٱلْأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ ۗ وَبَشِّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌۭ قَالُوٓا۟ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ * أُو۟لَـٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌۭ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌۭ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ}(البقرة:152).

وعن أبي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ قَالَ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ. ” أخرجه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني في الصحيحة بشواهده.
فاصبر فإنك في النوازل رائد والدرب نعلم شائك وطويل..
فالصبر روضات لأبناء الهدى ولجنة الرحمن تلك سبيل..
وبالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف، ولذلك وَعَى السلف الصالح أهمية الصبر عند وقوع الفتن والحوادث، وإليك نماذج مْن سيرتهم:
–  لما كان الصحابة رضي الله عنهم يعذبون ويفُتنون في صدر الإسلام بمكة كان يمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكرهم بالصبر، ومنهم آل ياسر فإذا مر بهم قال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة. صححه الألباني في تخريج فقه السيرة.

–  عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنْ الْحَجَّاجِ، فَقَال:َ “اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ” سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. رواه البخاري

وقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ” تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ. ” فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ ؛ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالا أَرْبَعًا: إِنَّهُمْ لَأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ. أخرجه مسلم
قال النعمان بن بشير: ” إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتن فأعدوا للبلاء صبراً “
–  عندما واجه إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل الفتنة العمياء بخلق القرآن في أيام المأمون ثم المعتصم ثم الواثق وما أصابه من الحبس الطويل والضرب الشديد فصبر وتمسك بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم حتى نصره الله وفرَّج عنه الغمة.

‌ج- ‌العدل والإنصاف في الأمر كله:
فإن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد وخصوصاً زمن الفتن فقدان العدل والإنصاف، ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل مع نفسه ومع الناس فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين سواء منها الفردية أو الجماعية ستزول وتحل بإذن الله تعالى.
يقول الله تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا} (الأنعام:152). ويقول تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ ۚ ٱعْدِلُوا۟ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}( المائدة:8).
فلا بد من العدل في الأقوال والأعمال وخصوصاً زمن الفتن، بمعنى أن يأتي الإِنسان بالأمور الحسنة والأمور السيئة ثم يوازن بينهما وبعد ذلك يحكم، لأن في الموازنة عصمة للمسلم من أن ينسب للشرع ما ليس موافقاً لما أمر الله به وبالتالي يكون عدلك وإنصافك في الفتنة منجياً بإذن الله تعالى.

ويقول فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:
أوصيكم أيها الأخوة بالعدل في الأمور كلها، والموازنة بينها، والحكم للراجح فيها، والتسوية بينها في الحكم عند التساوي، وهذه قاعدة كبيرة يجب على العاقل أن يتمشى عليها في سيره إلى الله وفي سيره مع عباد الله ليكون قائماً بالقسط {إن الله يحب المقسطين}(الحجرات:9).
وإليك نموذجاُ من نهج سلفنا الصالح في حرصهم على العدل والإنصاف:
روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ فَقَالَتْ مِمَّنْ أَنْتَ فَقُلْتُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ فَقَالَتْ كَيْفَ كَانَ صَاحِبُكُمْ لَكُمْ فِي غَزَاتِكُمْ هَذِهِ فَقَالَ مَا نَقَمْنَا مِنْهُ شَيْئًا إِنْ كَانَ لَيَمُوتُ لِلرَّجُلِ مِنَّا الْبَعِيرُ فَيُعْطِيهِ الْبَعِيرَ وَالْعَبْدُ فَيُعْطِيهِ الْعَبْدَ وَيَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ فَيُعْطِيهِ النَّفَقَةَ فَقَالَتْ أَمَا إِنَّهُ لا يَمْنَعُنِي الَّذِي فَعَلَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخِي أَنْ أُخْبِرَكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ.
قال النووي رحمة الله معلقاً على هذا الحديث:
فِيهِ: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُر فَضْل أَهْل الْفَضْل، وَلا يَمْتَنِع مِنْهُ لِسَبَبِ عَدَاوَة وَنَحْوهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَة قَتْل مُحَمَّد هَذَا، قِيلَ: فِي الْمَعْرَكَة، وَقِيلَ: بَلْ قُتِلَ أَسِيرًا بَعْدهَا… أهـ

نرجو أن نكون أسهمنا بشيء يرشدك إلى ما يمكنك فعله وقت الفتن.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى