استشاراتتقوية الإيمان

ربانية إنفاق المرء في ماله

  • السؤال:
إذا كان الإنسان يكتسب ماله من حلال، أليس من الشرع أن ينفقه كيف يشاء، لأنه هو المالك له الذي تعب في كسبه، فلماذا يضع الإسلام القيود في النفقة، من النهي عن الإنفاق في حرام، أو الإسراف في المباح؟

 

  • الجوب:

الأخ الفاضل:

ينظر الإسلام إلى المال بنظرة معتدلة، فهو في الحقيقة تعود ملكية المال إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلقه وأوجده، وهو الذي يرزقه الخلق كيف يشاء، و ما كسب الناس إلى سعي إلى تحصيل ما كتب الله تعالى له، ولهذا جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أربعين يوماً، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.”

كما أن الإنسان كلية هو خلق من خلق الله تعالى، وكل ما يملك في الحقيقة هو لله، فهو الذي خلقه، وهو الذي يرزقه، ولهذا حين أمر الله تعالى بالإنفاق قال ” وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه “، فعبر الله تعالى عن ملكية الإنسان عن المال بأنه استخلاف، كما أن الإنسان مستخلف في الأرض من الله، فهو مستخلف بما فيها من خيرات.

ومع هذا، فإن الإسلام يقر بالملكية للإنسان بما كسبت يداه – بفضل من الله -، وبسعي من نفسه، و جعل هذه الملكية من الأمور التي يجب احترامها وتقديرها، ولا يجوز الاعتداء عليها، بل لو قاتل المسلم للحفاظ على ماله، لكان شهيدا، كما جاء في الحديث:” ومن قتل دون ماله فهو شهيد”.

وليس بصحيح أن الإسلام وضع برنامجا للإنفاق على الإنسان، ولكنه حرم عليه أن ينفقه فيما فيه ضرر بنفسه أو غيره، للحفاظ على العيش الكريم، وألا تختل موازين الأرض، ولو قلنا إن الإنسان يملك نفسه مثلا، لكان من حقه أن يقتل نفسه متى هذا، وهذا ما ترفضه العقول، وكذلك أيضا المال، لا يجوز له أن ينفقه في الحرام أو ما فيه ضرر، و هذا النهي هو للحفاظ على الإنسان، وكأن تحريم الله تعالى هو مصلحة للإنسان، حتى ينفق ماله فيما ينفعه لا فيما يضره.

و لهذا، فليس هناك ما يحرم على الإنسان أن ينفق ماله في المجالات المتعددة المتنوعة كيف شاء، إلا ما جاء النص بتحريمه، و هو نذر قليل جدا.

كل ما هنالك أنه أوجب على المسلم الزكاة إن بلغ نصابا، وحال عليه عام هجري كامل في المصارف الشرعية، وتحريم بعض أوجه الإنفاق التي لا تتعدى نسبة لا  تذكر، وتبقى الحرية الغالبة للإنسان أن يفعل ما يشاء، فإن الإسلام لا يقف جامدا في تصرفات الناس، فحين يشتري إنسان سيارة أو فيلا أو عمارة أو أراض أو غيرها ما يحرم عليه الإسلام ذلك، بل لو كان الإنسان يملك ملايين واشترى بها ملكا لنفسه للانتفاع، ما أوجب عليه فيها الزكاة، فالسيارة التي تشترى بنصف مليون أو مليون ليس فيها زكاة، والعمارات التي تبنى للسكن وليس للانتفاع، والتي قد تصل إلى آلاف وملايين ليس فيها زكاة، وغيرها من الأمور التي يستخدمها الإنسان في حياته، فلا يجيء أحد بعد كل هذا ويقول: إن الإسلام يقيد حرية الإنسان في الإنفاق!!

ونستأنس هنا بما قاله شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوي حين قال:

إذا كان لمال الغير حرمة تمنع من التعدي عليه خفية أو جهارا. فإن لمال الإنسان نفسه حرمة أيضا بالنسبة لصاحبه تمنعه أن يضيعه، أو يسرف فيه، أو يبعثره ذات اليمين وذات الشمال.
ذلك أن للأمة حقا في مال الأشخاص، وهي مالكة وراء كل مالك، ولذلك جعل الإسلام للأمة الحق في الحجر على السفيه المتلاف في ماله، لأنها صاحبة حق فيه. وفي ذلك يقول القرآن: {وَلَا تُؤْتُوا۟ ٱلسُّفَهَآءَ أَمْوَٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰمًۭا وَٱرْزُقُوهُمْ فِيهَا وَٱكْسُوهُمْ وَقُولُوا۟ لَهُمْ قَوْلًۭا مَّعْرُوفًۭا} سورة النساء: 5.
فهنا يخاطب الله الأمة بقوله: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) مع أنها في ظاهر الأمر أموالهم. ولكن مال كل فرد في الحقيقة هو مال لأمته جمعاء.

إن الإسلام دين القسط والاعتدال. وأمة الإسلام أمة وسط. والمسلم عدل في كل أموره، ومن هنا نهى الله المؤمنين عن الإسراف والتبذير، كما نهاهم عن الشح والتقتير. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} سورة الأعراف:31.
والإسراف إنما يكون بالإنفاق فيما حرم الله كالخمر والمخدرات وأواني الذهب والفضة ونحوها، قل القدر المنفق أو كثر.
أو يكون بإضاعة المال بإتلافه على نفسه وعلى الناس. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
أو بالتوسع في الإنفاق فيما لا يحتاج إليه، مما لا يبقى للمنفق بعده غنى يغنيه.

قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو) البقرة:219. “إن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوٓا۟ إِخْوَٰنَ ٱلشَّيَـٰطِينِ} الإسراء:26.
وقال: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ} سورة الإسراء:29. وقال: {وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا۟ لَمْ يُسْرِفُوا۟ وَلَمْ يَقْتُرُوا۟} الفرقان:67.

وقال صلى الله عليه وسلم: “إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول وهكذا وهكذا.” وقال عليه الصلاة والسلام: “خير الصدقة ما أبقت غنى” وعن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله خذها صدقة، فوالله لا أملك غيرها. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من بين يديه فقال: (هاتها) مغضبا فأخذها منه، ثم حذفه بها بحيث لو أصابته لأوجتعه، ثم قال: “يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ثم يجلس يتكفف الناس. إنما الصدقة عن ظهر غنى، خذها لا حاجة لنا فيها”.وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن كان يحبس لأهله قوت سنة.

وقال الحكماء: الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط. فالإنفاق الكثير هو التبذير، والتقليل جدا هو التقتير، والعدل هو الفضيلة، وهو المراد من قوله تعالى: (قل العفو) ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الدقيقة. فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة، وشرع النصارى على المساهلة التامة، وشرع محمد صلى الله عليه وسلم متوسط في كل هذه الأمور. فلذلك كان أكمل من الكل. انتهى كلام الشيخ.

وخلاصة الأمر أن الإسلام لا يقيد الإنسان في أوجه الإنفاق من ماله، وأن المال هو في الحقيقة لله، وأن المرء مستخلف فيه، كما أن الله تعالى وضع ضوابط محدودة حتى لا يكون المال وبالا على صاحبه، وعلى المجتمع، بل شريعة الله تعالى كله رحمة وعدل ومصلحة لبني الإنسان جميعا.

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى