- السؤال:
الإخوة العلماء السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،أرجو أن تعذروني وتصبروا على أسئلتي الثقيلة، لكني قد أعياني البحث عن إجابتها لسنوات طويلة وكلما مر بي الزمن تتراكم عليها أسئلة أخرى لا أجد لها حلاً، وأحب أن أوضح في البداية أني أسأل هذه الأسئلة لأدفع عن نفسي كل شبهة، ولأصل لدرجة اليقين الذي يرضى الله عني به، وليس عناداً أو معاجزة في آيات الله. سأبدأ من نهاية الموضوع وأقول إنني بدأت تراودني فكرة أن موضوع الإيمان بالدين لا يستند لأي أدلة دامغة لا يمكن إنكارها (إنصافا لا عنادا)، بل هو يمكن أن نصفه بأنه: إذا أقنعت نفسك بالفكرة فستؤمن بها، وسترى في كل شيء دليلا عليها، فمثلاً إذا أقنعت نفسك أن القرآن معجزة فإن آية مثل “وجعلنا الليل والنهار آيتين” سترى فيها إعجازا علميا وستتكلم عن المجرات وكروية الأرض وربما أبعد من ذلك رغم أن الآية نفسها لا تشير إلى ذلك مباشرة. إن الذي يحيرني، لماذا يقول الناس أن الأدلة على صدق الدين واضحة وضوح الشمس ولا ينكرها إلا مكابر أو معاند في حين هناك كثير من غير المعاندين يجدون كل هذه الصعوبة في رؤية هذا الدليل الواضح وضوح الشمس، والذي هو من كثرة وضوحه استحق الخلود في النار كل من سمع به (أو لم يسمع؟) ولم يسارع إلى الإيمان به والوصول إليه؟ أريد أن أشرككم معي في بعض الأفكار والتأملات، فإني حين أقرأ القرآن أجد أنه في غير موضع يؤكد على وجود الله ووحدانيته وخلقه للسموات والأرض ووصفه بصفات الكمال، ولكنه لا يركز بنفس القوة على إثبات أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يكلمنا عن الله، هو رسول من عند الله حقاً، بل إنه غالبا ما ينكر على الناس طلبهم آية أو دليلا على أن الرسول هو رسول الله حقا، صلى الله عليه وسلم. لماذا طلب هذا الدليل هو أمر منكر؟ هل إذا جاءني رجل وقال لي ربي الله فهذا سبب كافي لأصدق أنه مرسل من عند الله حقا؟ أليس الإيمان يترتب عليه مسئوليات وتبعات جسام قد تصل للتضحية بالنفس إذا لزم الأمر؟ لماذا يكون كثيرا في المقابل أن يحتاج الإنسان إلى دليل؟ وأنا أقصد بالدليل هنا دليل حسي لا دليل عقلي، لماذا؟ لأن عقول الناس لا تتفق أبدًا ولو على أصغر الأمور، فهذا يرى الشيء كريها وذاك يراه مقبولاً وغيرهما يراه مستحسنا. وكيف نعتمد على العقل إذا كانت تعاليم الدين تفرض علينا أن نسلم بأمور لا قبل لعقولنا بها، فمثلاً علينا أن نسلم أن الله مسح على ظهر آدم وقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيده الأخرى فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، ثم نسلم أن الإنسان مختار وليس مجبر، ثم إذا ذهبنا نسأل يقال لنا أن هذا أمر فوق عقلنا. لماذا إذا نلقن هذه الأمور التي لن نفهما لتصعب علينا فهم الدين؟ ثم نخبر بأن الشمس تذهب بعد الغروب لتسجد تحت العرش ثم تستأذن لتشرق بينما هي كما نعرف الآن لا تغادر وقت الغروب لأنها في كل لحظة في غروب وشروق في مكان مختلف من العالم، ستقول لي إن هذا أمر فوق العقل، وأنا أقول لماذا إذا نخبر به؟ ألا يكفي أن نختبر بالإيمان بأمور في عالم الغيب كالجنة والنار والملائكة، كي يضاف إلى ذلك أن تطالب بالإيمان بضد ما تراه أعيننا؟ سأقول، إن ما أراه قريبا من العقل في الإسلام، إضافة لوجود الله سبحانه وتعالى، هو مبدأ المسئولية الفردية ومحاسبة النفس ووجود الثواب والعقاب بعد الموت، كي يأخذ كل مظلوم ضاع حقه في الدنيا حقه، وكي لا يتساوى المحسن مع المسيء. لكن المشكلة أن اقتناعي بهذه الفكرة به جزء من التمني، أي أني أتمنى وأحب أن يكون الأمر كذلك، ربما لأني نشأت في أمة مضطهدة مهضوم حقها، ولذلك لا أقدر أن أميز بين الفطرة والهوى في مثل هذا الأمر. كما أني فقدت الثقة في عقلي لكثرة أخطائه في الحكم على الأمور، فكيف أثق به في أمر مصيري كهذا؟ إني أتحدث عن الشبهات فقط لأني أعرف أن هناك محاسن كثيرة في الإسلام ولكن المشكلة أن النظريات والحقائق العلمية دائما يكفي لإبطالها نقيض واحد، مهما كثرت القرائن التي تؤيدها، فلو ثبت نص شرعي واحد مخالف مثلا لحقيقة كونية لكان هذا كافية لإبطال العقيدة التي تشتمل على ذلك النص. أنا أستغرب من العلماء الذين يحاولون إفهامنا أن كروية الأرض أو دورانها حول الشمس هي “نظريات وليست حقائق”، ولذلك فلا يصح أن نقارنها بالنصوص الدينية.. بل وذهب بعض علمائنا المعاصرين إلى إنكارهما! صحيح أنه ليس أمر ينبني عليه عمل، ولكنه أمر يكفي لهدم العقيدة كلها، إذا أثبت أن هناك نص قطعي في الدين ينفي حقيقة كونية ثابتة. لقد سمعت للشيخ الشعراوي رحمه الله في شرح سورة الأحزاب أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على زينب بنت جحش في بيت زيد بن ثابت فقال “تبارك الله أحسن الخالقين”. فتساءلت كيف يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم على امرأة أجنبيه عنه (في ذلك الوقت)؟ ألا يتنافى هذا مع غض البصر؟ بل وهناك من علماء المسلمين من جعل من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم جواز لمس النساء وضربوا مثلاً أن السيدة أم حرام بنت ملحان كانت تفلي له شعره واختلفوا هل كانت من محارمه أم لا. وأنا أتساءل كيف يسمح بأن تكون أمور في غاية الخطورة تمس حياة الرسول صلى الله عليه وسلم كهذه يؤخذ ويفتى فيها بهذه البساطة لتشوه صورة النبي الكريم كما يتوقع أن يكون؟ لقد قرأت بعض الكتب في مقارنة الأديان مثل كتاب “إظهار الحق” للهندي و “مقارنة الأديان” (لا أذكر اسم مؤلفه) وغيرها من الكتب، لكني وصلت أنه إذا طبقنا نفس المعايير الصارمة التي نحاسب بها المخالفين لنا ونحتج به على بطلان إيمانهم، فلن نسلم نحن أيضا من خرق هذه المعايير ولو ظاهراً، وسأضرب بعض الأمثلة، فهناك نصوص شرعية خاصة في الأحاديث يبدوا فيها الاختلاف، ومع ذلك يؤولها العلماء تأويلا تعسفياً ليخرجوها من الاختلاف، مثلاً “بعثت بالسيف” “إنما جئتكم بالذبح” في مقابل “لا إكراه في الدين” “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” ومثلا “أمرنا مترفيها ففسقوا فيها” في مقابل “قل إن الله لا يأمر بالفحشاء”. قد عرفت أن هناك تأويلات جاهزة لكل هذه النصوص، ولكن لماذا يصعّب علينا الأمر بحيث نضطر أن نقف في موقف الدفاع دائماً لشرح عقيدتنا بدلاً من أن تكون هي درع لنا؟ لدي كثير من الأمثلة على هذه النقطة لكني لا أريد أن أطيل فيها في هذه الاستشارة حتى لا أخرج عن أصل الموضوع. ولكي أضرب لكم أمثلة أن الأمر هو لمن يريد أن يراه هكذا، أقول، إذا قرأت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من وجهة نظر، فستجده مثالا في التواضع والرحمة وحسن الخلق والشجاعة، ونفي أن يسعى لأي مصلحة أو منفعة شخصية، ولكن إذا قرأتها من وجهة نظر أخرى، فقد تبدو لك صورة أخرى، مثلا قوله “أنا سيد ولد آدم”، “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين”، “رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ”، حتى أننا إذا ذكرنا اسم الله سبحانه وتعالى لا نضيف شيئا في حين إذا ذكرنا الرسول فعلينا أن نضيف “صلى الله عليه وسلم”. ثم إذا نظرنا لمواقف الحرب نجد صورة أخرى قاسية وخاصة ما روي في حادثة بني قريظة وكيف قتل منهم كل ذكر بالغ ولم يخص من تآمر منهم على المسلمين. لا أعرف كيف يمكن أن تجتمع الرحمة والقسوة في نفس واحدة بالشكل الذي يجب أن يكون عليه المسلم. وانظر إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم “ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو عمل صالح”، ثم انظر إلى جعل شرط من شروط الخلافة في الإسلام أن يكون الخليفة من قريش (وهذه فتوى موجودة في موقعكم نفسه)، وكذلك انظر إلى قوله “وكتب الله له بها عشر رقاب من ولد إسماعيل” فجعل هناك ميزة لولد إسماعيل على غيرهم. إنني أعاني من هذه الأسئلة وغيرها مما أرهق تفكيري، خاصة أني أشعر أني أفكر في العذاب الذي ينتظر في الآخرة من لم يصل للحقيقة مما يمنعني من التفكير بحرية ويجعلني في حالة ضيق دائم. المشكلة الأخرى أني أصبحت بسبب تفكيري هذا لا أستطيع أن ألوم من لم يؤمن بعد سماعه بالإسلام. لقد سمعت في أحد محاضرات الشيخ أحمد ديدات قوله أن الدين الحق لا يعرف بالمعجزات، وإنما الثمرة، وضرب مثلاً أن المسلمين هم أقل الناس في العالم معاقرة للخمر والقمار. ولكن في المقابل انظر إلى حال المسلمين، منذ وعينا على هذه الدنيا أمة مهزومة ومتأخرة علميا ونظامياً، ودولها هي أكثر دول العالم ديكتاتورية وقمعاً للرأي المخالف، وحالها يزداد سوء يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، بل وهم أقل أمم الأرض استعداد للتوحد وتقبل اختلافاتهم، ما أكثر ما بينهم من عداوة وبغضاء في حين تتوحد أمم لا يجمع بينها دين ولا لغة، بل ويفرقهم تاريخ طويل من الحروب المؤلمة نسوها في سبيل مصالحهم، وليس هذا حال المسلمين، والعلماء والشيوخ ليس عندهم جواب إلا أن المسلمين أصابهم ما أصابهم بسبب بعدهم عن الإسلام، وأنا أتسأءل، هل ينتظر أن يتحول تسعين في المائة مثلا من المسلمين إلى ناس على قلوب الصحابة حتى ينتظر منهم أي خير؟ أم هي فقط تبريرات تساق حتى تبرر انهزامنا وتخلفنا؟ على أن الصحابة لم يلبثوا إلا قليلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى اختلفوا ورفعوا سيوفهم ضد بعضهم. ومما يثير حيرتي أيضا هو أني أتوقع من الدين الحق أن يكون-باعتباره منزل من خالق البشر جميعا- حريصاً وراعيا للبشر جميعاً وليس لمن اتبعوه فقط، وهذه قضية هي أحد المعايير التي حكمت بها مثلاً على اليهودية باعتبار أن فيها مبدأ “ليس علينا في الأميين سبيل”، تقرض لأخيك بدون ربا ولغيره تقرض بالربا، ولكني لم أستطع أن أستشعر هذه القيمة في الإسلام، على الأقل من خلال قراءاتي وسماعي للدروس، فمثلا سمعت أنه يجب علينا أن نضيق عليهم (أي غير المسلمين) في الطرقات، وأن المسلم لا يقتل بكافر، وأحس بشيء من ذلك عندما أسمع “أشداء على الكفار رحماء بينهم” “أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين”، هذا فضلاً عن موضوع القتال، وهو بالرغم من محاولة كثير من العلماء تجميله ووضعه في صورة وكأن المسلمين على استعداد لمسالمة غيرهم وأن الإسلام دين السلام وغير ذلك، لكن ما أقرأه وما أسمعه من تاريخ المسلمين منذ الهجرة لم أشعر بهذا، ولا استطيع أن أخدع نفسي، فما عرفناه عن المسلمين في عصور قوتهم هو أسلوب “إنا نعرض عليكم الإسلام فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم فإن معي قوما يحبون الموت كما يحب فارس الخمر”، هكذا دون إقناع بالحجة أو الدليل، (ومثل ذلك قضية فتح القسطنطينية والتي لم تكن رداً على عدوان أو دعوة بل لتحقيق نبوءة فقط) وكيف تتوقع أن يسلم من تعرض عليه الإسلام بهذا الأسلوب؟ وهناك أيضاً حديث “أمرت أن أقاتل الناس” (إلى آخره)، والذي رغم محاولة العلماء التبرير والشرح، أيضا يعطي هذا المعنى. وهنا لدي وقفة، لماذا يكون الدين بحيث يضطر العلماء للتبرير والتجميل، لماذا لا تكون الأمور واضحة ومباشرة أبيض وأسود، أليس هذا الكون مخلوق بدقة ونظام دقيق، لماذا لم يكن الدين مثل ذلك؟ ثم هل يعقل أن يعتنق الإنسان الدين بالإكراه؟ كيف يقاتل الناس كي يدخلوا في الدين ثم بعد ذلك يستنكر موقف المنافقين؟ كيف لا تتناقض حرية الدين مع قتل المرتد؟ لكم سعدت بقراءة آية “لا إكراه في الدين”، بقدر ما صدمت عندما قرأت تفسيرها الذي فيه أن هذه الآية نسخت بآيات القتال! ومثل ذلك “الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا”، هل تعرفون أني أصبحت لا أحب قراءة كتب التفسير لأنها أصبحت أحيانا تفسد علي فهمي لآيات القرآن؟ ولدي سؤال أحب أن أسأله حول المسيح عليه السلام، كيف يكون ميلاده معجزة وهو أمر لا يمكن إثباته إلا بخبر؟ فهو ليس كعصا تنقلب ثعبانا أو بحر ينشق إلى قسمين أو ناقة تخرج من صخرة. ولماذا ينكر على اليهود عدم تصديقهم بذلك رغم أن هذا أمر لا يمكن لأحد أن يتحقق منه؟ أما عن أدلة الإسلام القوية وأقواها ربما كان حفظ القرآن، وإذا بي أفاجأ أنه لم يصمد كحقيقة ناصعة، بل جاء قوم (ربما من الشيعة) وقالوا بتحريف القرآن، بل وتروي لنا كتب الحديث عن آيات كانت في القرآن ثم ذهبت منه مثل قول السيدة عائشة “فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن”! وهي أيات الرضاعة ومثله قول عمر عن آية الرجم “الشيخ والشيخة إذا زنيا” والتي في الحقيقة لا تبدوا لي على أسلوب القرآن الكريم، ومع ذلك يتشبث العلماء بهذه الأحاديث لعدم تشويه صورة كتب الحديث رغم أنها قد تبلبل للناس أذهانهم كما فعلت معي. هل تعرفون أنه في أحد خطب الجمعة قال الشيخ “وإذا عصاني العبد غضبت عليه وإذا غضبت عليه لعنته ولعنتي تبلغ السابع من ولده”، فكلمته بعد الخطبة وقلت له: كيف هذا والقرآن يقول “ولا تزر وازرة وزر أخرى” ؟ فما كان جوابه إلا أن قال لي “هذا الحديث في كتاب من أصح كتب الحديث”!! ومواضيع الإعجاز العلمي على قدر ما أفاض فيها العلماء على قدر ما أنكرها علماء آخرون، فلم يبق إذا دليل إلا وتشوبه شائبه، ليست من صنع الكفار بل من صنع المسلمين أنفسهم. يا أساتذتي وإخواني العلماء، لدي كثير مما لو كتبته لاحتاج مني لكثير من الوقت، وأنا أريد أن أفتح باب للتواصل معكم، ولكني من خلال الجزء الذي كتبته أرجو أن تصلكم الصورة، فلا أريد أن تكتفوا بإجابتي على النقاط التي ذكرتها فقط، ولكني أريد أن تساعدوني على الإجابة على السؤال الأهم: ما هي الأدلة الناصعة الواضحة التي لا تشوبها شائبة ولا يختلف عليها اثنان أن الإسلام هو الدين الحق، ولماذا توجد كل هذه الشبهات التي تصعب علينا الدعوة إليه وتسهل مهمة الطاعنين فيه، في الوقت الذي تكون فيها عقوبة مخالفته أقسى عقوبة في الوجود؟ والقضية بالنسبة لي لم تعد قضية مقارنة بين دينين، الإسلام والمسيحية مثلا، لأن المسيحية لن تصمد أبدًا أمام مثل هذا المنطق أو العقل وستنهار بسرعة، لكن المشكلة أصبحت أن الأمر بالنسبة لي بدأ يبدو وكأن كل الأديان هي كالنظريات، تأتي الأحدث فتبطل الأقدم، وعلى قدر ما تكون النظرية الأحدث فيها إجابات أكثر منطقية إلا أنها ما تلبث أن تنهار عندما تبدو ظواهر لا تصمد أمامها. وأحيانا كنت أتساءل، إذا كان منذ وقت النبي إبراهيم حتى بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يخرج نبي إلا من ذريته، فهل هذا يعني أن الله ترك أمم الأرض في الشرق والغرب تتخبط في الكفر ولم يعتني إلا ببني إسرائيل الذين كانت تسوسهم الأنبياء؟ وفي حين نحن نعتبر الإسلام (شاملا الأديان السماوية) من أقدم الأديان، نجد الموسوعات العلمية الحديثة تصنف الأديان الثلاثة على أنها أحدث الأديان وأن الأديان القديمة هي الهندوسية والبوذية وغيرها؟ العقل والإيمان باختصار، نحن نقول إن استعمال العقل سيقود للإيمان، ولكن ما إن نبدأ باستعمال العقل حين نجد أمامنا الشبهات، إلا ويقول لنا العلماء توقفوا عن التفكير لأن هذه وساوس! أي منطق هذا؟! وهناك مواقع أصبحت متخصصة في التنقيب عن الشبهات في الإسلام وأما المواقع الإسلامية فليس لديها إلا التجاهل، بحجة أن هؤلاء ليسوا بباحثين عن الحقيقة. وماذا إذن عن المسلمين الذين يمكن أن يفتنوا بسبب هذه الشبهات؟ ألا يستحقون أن يجدوا من يهتم بهم؟ |
- الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الأخ الفاضل:
سعدت برسالتك التي حوت أكثر من أربعين نقطة تحتاج إلى مناقشة متأنية، وهي تنم عن عقل جيد، وفهم لا بأس به في عدد من الأمور المذكورة، وإن خالفتك في بعضها، لا لتفكيرك، ولكن لعدم اطلاعك بثقافة واسعة على ما ذكرت، وربما أجد لك بعض العذر أمور ذكرتها.
وأرى أنني في حاجة إلى وضع بعض النقاط العامة لتوضيحها، وفي ظني أنها هي:
- الإسلام والعقل:
الإسلام كدين هو دين العقل، ولهذا جعل الله تعالى العقل مناط التكليف، حتى العبادات التي يرى البعض أنه لا يعمل العقل فيها، فالمقصود منها ألا يكون فيها اجتهاد، لأنها عبادة، ولله أن يتعبدنا بما يشاء، لكن هي معقولة المعنى، يعني نجتهد في إدراك مقاصدها ومراميها، وأحسب الحديث عن المعادلة بين الإسلام والعقل لا تحتاج إلى كثير كلام، ولكن الأمور عندنا تضبط بالشرع، وكل ما جاء به الشرع لا ينافي العقل السليم، ولكن لا يعني هذا عدم اعتراض البعض على هذه المعادلة، ولو كان كل اعتراض على شيء يؤدي إلى نفيه، فإن الله تعالى الذي خلق الناس جميعا، ما آمن به كلهم، وما اعترف به كلهم، ولو كان كل اعتراض على شيء يؤدي لنفيه، لنفينا أنفسنا التي نشعر بها، ونفينا كل العلوم التي تعلمناها، ونفينا كثيرا من معارفنا، فالاعتراض على الشيء لا يعني أن به نقصا، ولهذا فيجب علينا أن نغلب عقل الفطرة، وكما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُوا۟ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفًۭا كَثِيرًۭا}. فطبيعة العقل البشري هو الاختلاف، حتى على الثوابت كما هو موجود في الحضارة الغربية في كثير من مسائلها، وليس من الحكمة تحويل الثوابت إلى متغيرات،ولا المتغيرات إلى ثوابت، كما أن من طبيعة العقل البشري أنه قاصر، لأن من طبيعة البشر الخطأ، فكيف نجعل ما من شأنه النقصان والخطأ هو الحاكم على الكمال، والكمال يأتي ممن له الكمال وحده، فالإنسان يخطئ ويصيب، ولكن الله تعالى لا يخطئ أبدا، وكل ما جاء عن الإنسان قد يكون صوابا، وقد يكون خطأ، ولكن كل ما جاء عن الله فهو حق وصدق، بشرط التأكد أنه من الله تعالى، وأن نفهمه الفهم الصحيح، وهذا يجرنا إلى النقطة الثانية،و هي:
- قضية الفهم:
كثير من مشكلاتنا هي الفهم للإسلام، وعدم التفرقة بين النص وبين فهم النص، فالقرآن الكريم هو كلام الله تعالى نصا، لا خلاف في هذا، ولا خلاف في أن كل ما قاله الله تعالى حق وصدق، ولكن ليس كل تفسير القرآن صحيحا، فالتفسير جزء منه يعبر عن أفهام علماء، وهذا الجزء من التفسير يرتبط بعقلية المفسر وثقافته وبيئته ومعارفه وغير ذلك من العوامل، ولهذا فالقرآن نص مقدس، ولكن التفسير ليس نصا مقدسا، بل هو نص بشري، فيه ما هو صواب بالطبع، وفيه ما هو خطأ، ولهذا فالتفسير أنواع، فبعض آيات يفسرها القرآن، وبعضها يفسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها يفهمه كل أحد، وبعضها يفهم عن طريق اللغة العربية، وبعضها لا يعرفها إلا المتخصصون، وجهد المتخصصين مختلف فيه، لأنه جهد بشري محض لا يؤيده وحي، فمن هذا التفسير ما يكون صوابا وقد يكون خطأ، ولكن الخطأ الأكبر أن نجعل كلام العلماء الكبار منزها عن الخطأ، وأن نجعل كل كلامهم الذي يدخل في بعضه سياق الزمان والمكان صالحا لكل زمان ومكان، و إن كان لابد أن نؤكد على قدر هؤلاء العلماء الأجلاء، ولكن لا يكون عندنا تطرف في الحكم عليهم، فكل يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا اجتهدوا هم لزمانهم، فلنجتهد نحن لزماننا بضوابط الاجتهاد، سواء أكان في الجانب الشرعي، أو الدعوي، أو الحياة العامة، أو في بناء الحضارات، مع قبول النقد الذاتي والتحليل، مع اعتبار الواقع وعدم الابتعاد عنه، وأن نقترب من النبع الصافي للإسلام في أولى أيامه.
- اختبار المعلومات:
ومن الجيد ونحن ننقد أن نختبر معلوماتنا، وساعتها نجد أنفسنا محقين في بعضها، ومخطئين في البعض الآخر، ومن الخطأ المعيب أن نعتبر أفهامنا وأذهاننا كلها على أنها صواب، والعمل بهذه القاعدة يجعل المرء متجددا في حياته، لا أن يكون كالماء الراكد الذي لا حراك فيه، فقبول الآخر والانفتاح على العقول الأخرى، مع الحفاظ على الثوابت يجعل المرء على قاعدة صلبة، فهو دائما يختبر معلوماته، ولكنه ليس شيئا هشا تنقله الريح حيث تشاء، فهو ثابت، ولكنه منفتح، يدرك أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
- التفرقة بين القانون والتطبيق:
ومن القواعد الهامة التي يجب عليها أن نفهم كثيرا من أمور الإسلام أن الإسلام في ذاته معصوم، لأنه من الله، وكل ما في الإسلام صائب لا شك فيه، ولكن التطبيق النابع من فهم النصوص الشرعية هو المختلف، ولأن التطبيق عملي بشري، وكل عملي بشري قد يكون صوابا، وقد يكون خطأ، ولهذا، فحين نريد أن نعرف الإسلام نفرق بين تطبيق المسلمين، وبين قواعد الإسلام، وفي القواعد نفرق بين القواعد المتفق عليها، وبين القواعد المختلف فيها، وبين ما هو ثابت النص وبين ما هو ناتج من الفكر، وفرق بين أن نحاكم الإسلام كدين وعقيدة، وبين أن نحاكم المسلمين كبشر لهم سلوكهم وفهمهم، وإن كانت مرجعيته تلك العقيدة وهذا الدين.
فلا شك أن المسلمين كان لهم أخطاء في التاريخ، ومن يحسب أن كل ما فعله المسلمون صوابا فهو على خطأ، وخاصة أن عددا من التصرفات وخاصة فيما يخص المخالفين في العقيدة جاء وفق نزعات أو آراء غلبتها النزعة السياسية أحيانا، وكان رد فعل لما يفعله غير المسلمين أحيانا، وكان للزمن فيها دور، ولطبيعة العلاقة بين الدول فيما يخص السياسية الدولية دور، وهكذا، فإن العوامل متشابكة، لكن كل هذه تمثل وجهة نظر الخلفاء والخلفاء بما فهموه من الشرع، ولكن لا يمكن أن يكون هذا هو الشرع عن سبيل القطع، ولكنه عن سبيل الظن. ويجب علينا أن كمسلمين أن نتعرف بالأخطاء التي وقعنا فيها، وهذا شيء لا يعيبنا، ولكن لا نلصقه بالدين، ففرق بين المبادئ والأشخاص، وخاصة أن المبادئ جاءت من عند الله.
- ربانية الدين:
ومن أهم ما يجب أن ننتبه إليه كقاعدة في التفكير في الإسلام أن هذا دين رباني، هو من عند الله تعالى، وحين نتعرض نقيس المبادئ والأشخاص يرى كثير من الناس أنه لا يجب الفصل بينهما، وهذا صحيح على وجه، إن كانت الأفكار والمبادئ من البشر، أما حين تكون المبادئ من الله تعالى، فيجب احترام قدسيتها، على أن نفرق بين القواعد العامة التي لا اختلاف حولها، لأن الله تعالى الذي خلق الكون أوجد ما يصلحه، ولا تعارض بين كتاب الله تعالى المقروء، وهو القرآن الكريم، وكتاب الله المنظور وهو الكون والحياة، كما أننا حين نتحدث عن العلم يجب أن نفرق بشكل قاطع بين النظريات والأفكار، فكم عاش الناس على نظرية فرويد، فإذا هي بعد مئات السنين تعد من الجهل، وينكرها أهلها، ولهذا، فالأصل ألا تناقض، على أن نفهم كلام الله على الوجه الصحيح، وأن يكون ما في الكون والحياة من النظريات الثابتة بوجه قاطع، لا يحمل مجرد الترجيح، لأن الترجيح قد يحمل نسبة من الخطأ أيضا، ولا نحاكم كتاب الله تعالى على ترجيح عقل بشري خلقه الله تعالى، لأن هذا يعد نوعا من الخطأ في التفكير.
- فقه الحديث:
وكثير من الاعتراضات تأتي من الحديث النبوي، وذلك أن الحديث أولا قد لا يصح عنه، وأن العلماء يختلفون في تصحيح الحديث وتضعيفه، كما أن هناك ما يعرف بعلم “ورود الحديث” يعني معرفة المناسبة والملابسات التي أحاطت بقول النبي صلى الله عليه وسلم، واختلاف العلماء في فهم الحديث، فإن كان من العلماء من فسر أو فهم الحديث على محمل ربما لا يكون مناسبا لنا، وربما يكون خطأ، فلماذا نتمسك بالقول الغير مناسب، ونترك القول المناسب، ومن الجيد أن نطلع على أقوال شراح الحديث، سنجد أقوالا معقولة، وأقوالا غير معقولة، فنأخذ المعقول، أما ترك المعقول والتركيز على غير المعقول أو الغير المناسب، وأن نقرأ بعين الاستفادة وليس بعين النقد، نستخدم النقد لانتقاء الأفضل، ثم نترك ما لا يصلحنا، وأن نأخذ منهج الإصلاح سبيلا لنا دون المعوقات التي تجعلنا ندور دائما في الفلك ولا ننتهي.
كانت هذه إجابة موجزة وعامة عن قواعد المشكلة الأساسية، أما عن أسئلتك التي فاقت الأربعين، فإنه لا يمكن لنا حسب سياسة النشر أن نرد عليها دفعة واحدة، ولكن نعدك أن نجمع كل مجموعة في استشارة، على أن تنزل على استشارات متعددة، فتواصل معنا، ونحن نسعد بك دائما.
- د. مسعود صبري