- السؤال:
أنتمي إلى جماعة، وملتزم في حياتي، ولكني وقعت في خطأ كبير لا أستطيع بعده الإحساس بلذة العبادة، وأشعر دائمًا أن كل أعمالي ومجهوداتي في سبيل الدعوة ليس لها أي ثمن، كما أشعر أن حياتي كلها حرامٌ في حرام، وذلك لأني كنت محتاجا في فترة من الفترات ومددت يدي وأخذت أموالاً من عملي بدون وجه حق، وكانت أموال تبرعات لإحدى الجمعيات الخيرية، على أمل ردها فيما بعد، ولكني لا أستطيع ردها حتى الآن، وأشعر أن كل شيء في بيتي حرام، وأن ابني أصرف عليه من حرام. بالله عليكم أنقذوني وقولوا لي ماذا أفعل.. لا أستطيع أن أواجه أحد بهذا الموضوع. |
- الجواب:
تعودت في إجاباتي على السائلين أن أبدأ بقولي: أخي الفاضل، ولكني لا أقوى على هذا معك، وإنما أقول لك: أخي السائل؛
ولا أخفيك سرا أني أجد في هذا النداء قسوة، وخاصة مع إنسان يفترض أنه ينتظم في سلك الدعوة إلى الله، في عمل الأنبياء والمرسلين، خدمة وحسبة لله رب العالمين.
وكنت أتصور أن يتألم الإنسان حين يرى نفسه مكتسبا من الدعوة، فيأخذ بعض الأموال مقابل تفرغه أحيانا -مع كون هذا الأمر قد يكون مقبولا من الناحية الشرعية- لكن أحسب أن من صفات الدعاة المخلصين أن يجعلوا أعمالهم حسبة لله تعالى، ويدخروا ثوابها عنده، ويمكن لهم أن يقوموا ببعض المشاريع التي ينفقون منها، أو من خلال الوظائف وغيرها.
ولكن أن يتطور الأمر بالاعتداء على الأموال الخيرية، فهذا جرم عظيم، يوشي بنقص البناء التربوي، لا أقول على مستوى الجماعات، ولكن على مستوى بعض الأفراد داخلها، ممن يتوجب عليهم أن ينظروا إلى بناء الداعية، وتصديه إماما للناس.
ربما أجد نفسي متراجعا أن أسوق لك بعض الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الأمانة، ولكني أقول لك أن تنظر إليها لا بعين الناس، ولكن بعين الداعية الأمين.. إن الداعية إلى الله يقرأ القرآن بقلبه قبل عقله، وبروحه ونفسه قبل أعضائه وجوارحه، إنه لا يقرأ لنفسه، وإنما يقرأ لنفسه ولغيره، إنه يفهم آفاقا عظمى من الأمانة حين يتلو قول الله: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا۟ ٱلْأَمَـٰنَـٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا}.
إنه ينظر إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة) رواه البخاري، نظرة أرحب من المعنى المفهوم الظاهر.
وأحسب أن الأمانة في حياة الدعاة، وفي منهجهم وسلوكهم تحتاج إلى تفسير جديد، يعمق أثر الأمانة في حياة السالكين درب الدعوة إلى الله تعالى.
ربما كان إحساسك –أيها السائل– بأن عملك غير مقبول، وأنك تشعر بأن حياتك –على حد قولك– “حرام في حرام”.. أقول ربما كان هذا إحساس رجل مسلم، تشرب بعض تعاليمه، ولكنه ليس إحساس داعية إلى الله تعالى، إن أقل ما يجب أن تقوم من فورك، وأن تستدين ممن عندهم مال يفيض عن حاجتهم، أو تبيع بعض ما تملك، ولو كان شيئا ضروريا في حياتك، وأن ترد هذا المال، فهذا أقل التوبة إلى الله تعالى في شأنك.
ولو وصل الأمر إلى أن تتطلب من إخوانك أن يجمعوا لك بعض المال لأنه دين عليك واجب الأداء، وقد حان وقت الأداء، خشية أن تموت وأنت غاش لدعوتك، خائن لأمانتك.
لا أدري، ربما كنت تنفق على ولدك من هذا المال، يعني أنك تربيه وتطعمه من أموال الخيانة، فانظر أي ولد يكون لك؟ وأي تربية هذه التي نربي بها أبناءنا؟
ويحضرني موقف النبي صلى الله عليه وسلم، حين أراد الحسن أن يأخذ تمرة من تمر الصدقة، وكاد أن يضعها في فمه، فاختطفها النبي صلى الله عليه وسلم من الطفل الصغير، ويحرمه من تمرة لا تساوي في ميزان الحياة شيئا ذا بال، ولكنه كان يريد أن يعلم أبناءه منذ الصغر ألا يأخذوا شيئا ليس من حقهم، ولو كان شيئا غير ذي بال، هذا في حق طفل تصرف تصرفا لا يدري وجه الصواب فيه، لا داعية يأمر الناس بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويرشد للخير، ويصرف عن الشر.
إن الله تعالى جعل أكل أموال اليتامى أكلا للنار {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًۭا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًۭا}.
وربما كانت الأموال مخصصة من الجمعية الخيرية لتصرف على بعض الفقراء واليتامى، أو هي من الأنشطة الخيرية التي تقوم بها الجماعات، فتدخل نفسك في هذا الوعيد.
أخي السائل؛
إن جهنم تقترب منك، فأبعد نفسك عنها برد الأموال التي أخذتها دون تمهل أو تكاسل، وتذكر قوله تعالى: {يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ قُوٓا۟ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًۭا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌۭ شِدَادٌۭ لَّا يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
بع مما تملك مما ليس ضروريا في حياتك، وعش حياة الزهد والتقشف، حتى ترد أمانة الله التي خنتها، عسى الله تعالى أن يمن عليك بتوبة من عنده، وصدقني –أيها السائل– لن تجد لحياتك لذة وطعما، إلا بعدما ترد الأمانة، وإن الله تعالى أراد لك الخير حيث أشعرك بهذا ولم يمت قلبك، بل كان من فضله عليك أن أشعرك أنك تحيا حياة لا خير فيها، وكأنك تعيش في حرام دائم، فاحمد الله أن أيقظك قبل فوات الأوان، ولا تتوان في سداد الأمانة، حتى تعود في سلك الدعاة الصادقين، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب، أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون.
إن الدعاة نبراس الله لعباده في الأرض، فلا تطفئوا –أيها الدعاة- نبراس الله لعباده، واعلموا أن الله حين اصطفاكم وفضلكم، أوجب عليكم ما لم يوجبه على غيركم، وسيجزيكم أفضل ما يجزي المحسنين، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًۭا مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَـٰلِحًۭا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ}.
فتب برد الأمانة، وانتظم في سلك الدعاة المخلصين، وتذكر أن الله تعالى يحب توبة التائبين، فلنفرح ربنا بتوبتنا له، وعودتنا إليه، عسى أن يتقبلنا في عباده الصالحين.
- د. مسعود صبري
الجزء الثاني:
- السائل:
أخى الفاضل مسعود صبرى قرأت الرد على رسالتى وشعرت فيها بشدة الحرقة من أخ على أخيه المذنب مما دفعك فى زيادة تعنيفى.. ونصحتنى بأن أسد هذه الأموال فوراً، وأحاول بيع ما يزيد عن حاجتى فى المنزل. ولكنى لم أجد الحل حتى الآن، وليس عندى ما أبيعه والله، فليس عندى أىة وسيلة ترفيهية (كالتليفزيون أو غيرة). وأصبح عجز عن رد المبلغ سبباً فى عدم إقبالى على العمل لدين الله عز وجل؛ حيث إننى من أنشط العاملين لدين الله، والله شاهد على ما أقول، وأصبحت أتغيب عن العمل لهاجس فى نفسى أن كل ما أفعله أصبح هباءً منثورا. جزاكم الله خيراً على اهتمامكم بمشكلتى وساعدونى أثابكم الله.
- الجواب:
دائما يتعامل الإنسان في الحالات الخاصة بين أمرين، بين جمع القواعد الكلية، وبين الحل للحالة الجزئية، فنستفيد من الكلي للجزئي، وأنت أخي فعلت شيئا من الكبائر، وفيه لا تصلح الملاطفة ولا الملاينة، إن هذه الدفعات الثورية التي رأيتها في كلامي، هي نابعة عن حب لك، وخوف عليك، فإن كنت ترى أخاك يحترق، فإنك ستتعامل معه بشكل مغاير، في حالة ما إذا كان مغضبا أو عنده قضية صغيرة، فلاحظ أخي حجم مشكلتك أولا، ثم قس بعد ذلك كلامي وعلاجي لها.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع أصحابه بقراءة للحالة الموجودة والنفسية التي قامت بالعمل، فقد يتعامل مع واحد بشيء من الشدة والقسوة، لأنه عنده كبير، فما كان ينبغي له أن يصدر من هذا ، في حين أن الشيء ذاته يفعله غيره ، فيكون علاجه مختلفا، لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم للأشخاص والحالات.
وأنت أخي رمز في الدعوة، وأنت تعرف تماما ماذا يعني هذا، حتى لو لم يفهمه كثير من الناس، لكنك تفهمه وتستشعره، فكان لزاما علي هذه الثورة العاطفية التي تحمل الحب والخوف، وهما جناحان يتعامل بهما المسلم دائما.
ولا تظن أن حديثي معك بعد إرسالك الرسالة مرة ثانية نوعا من الطبطبة، وتغييرا للمنهج، لكن المعالج يدفع في نفس من يعالجه كل طاقاته حتى يصل إلى حل، فإن رأى أن الوسائل التي اقترحها لا سبيل إليها ، فليبحث عن وسائل أخرى، المهم أن نصل إلى الهدف.
وربما كان الوقت مانعا عن إنجاز الهدف، فلنأخذ له وقتا أوسع، ولكن يبقى هدفنا كما هو.. وهو رد أموال الدعوة.
إن الشهيد الذي يضحي بحياته وروحه وماله، يوقف يوم القيامة إن كان عليه دين، حتى يسترضي صاحبه، والداعية إلى الله تعالى مجاهد في سبيله، ولن تشفع له الدعوة في التحلل من حقوق الغير، وخاصة أن الله تعالى ربط غفران الذنوب المتعلقة بحقوق الغير أن يتسامح فيها أهلها، مع كونه سبحانه وتعالى هو الذي يغفر لا العباد .وفي هذا أخرج الإمام مسلم في صحيحه ، وأحمد في مسنده ، بسنديهما عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين”.
وأقول لك:
فكر-أخي الكريم – بشتى الطرق في رد الدين ولو بالتقسيط، وكنت قد اقترحت عليك أن تستدين من إخوانك ما ترد به ما أخذته من مال غير مباح لك، ولم يكن قصدي ببيع ما عندك ذات الشيء، لكني طرحت لك أن تفعل أي شيء حتى ترد المال لنبعه وأصله.
كما أنني استبشر لك خيرا، أنك ما دمت تبت إلى الله تعالى، ووجد الله تعالى منك صدق النية، فإن الله تعالى جاعل لك فرجا ومخرجا، وما كان لله تعالى أن يمنع فيض خيره من عباده لأجل ذنب ارتكبوه، إن هم تابوا إليه، وردوا الحقوق إلى أهلها.
أخي أنت شامة، والشامة يشار إليها بالبنان، فيجب أن نكون على قدر المسئولية، وإن كنت تعمل في حقل الدعوة، فإنه من الواجب الانتباه لتربية النفس، مهما كان شأن الأخ في الدعوة، فهو كطالب العلم، يموت ويجهل كثيرا من مسائل العلم، ونحن نربي أنفسنا ما دام فينا رمق من الحياة ، وربما قد لا أكون محتاجا أن أذكرك بالقول: “أصلح نفسك، وادع غيرك”.
ولو أردت شيئا من الطمأنينة، فإن مافعلته يدخل ضمن ذنوب الجوارح، وهي في حقيقتها تقل عن ذنوب القلوب والنفوس، وما أظن فعلتك إلا رد فعل لضعف بشري في لحظة من اللحظات.
فما أنت فيه يمكن علاجه بنوع من المساعدة من الغير، ولو أخرجت كل شهر مبلغا زهيدا، ولكن هذه الخطوة تعني أنك سائر في طريق التوبة إلى الله تعالى، وأحسب أن هذه الخطوة تفك القيد الذي تشتكي منه.
واسمح لي أن أقول لك شيئا أعتقده، ربما يختلف الكثير من أصحاب الدعوة معي فيه، وهو أن الذنب لا يكون حائلا عن فعل الطاعات، المهم أن نعرف أن ما فعلناه ذنبا، وأن مقابل الذنوب طاعات، وأننا في حرب بين الحق والباطل الذي في أنفسنا وفي مجتمعنا، وواجب علينا أن نغلِّب جانب الخير على جانب الشر، وانظر إلى رحمة الله تعالى: {مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُۥعَشْرُأَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰٓ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.
بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الهم بالحسنة يثاب المرء عليه حسنة، فإن فعلها كانت له عشر حسنات، ومن هم بسيئة ولم يفعلها كتب له حسنة، فإن فعلها كتبت عليه سيئة واحدة.
وميزان الإنسان يوم القيامة أن تزيد كفة حسناته على سيئاته، إن المسلم غير معصوم، وليس هناك من عمل يوقف عن أعمال الخير والبر، وخاصة ما يتعلق بالدعوة، على أن يصحح الإنسان مسيرته وهو في الطريق، فليس هذا أول ذنب لك، ولا آخره، ولكن علينا أن نصحح خطأنا، وأن نجبر كسرنا، وأن نزيد من حسناتنا على سيئاتنا.
واسمح لي بهذا المثل البسيط جدا والذي نقوله لمن هو بادئ في التدين أنه يرى في نفسه أشياء كثيرة تمنعه عن أداء الصلاة، وأنه يحتاج إلى أن يصحح نفسه أولا ثم يكون إنسانا خيرا.
وأقول لك: لن يكون الإنسان خيِّرا ما دام ترك ميدان الخير، وترك العمل الدعوي خسارة عليك كبيرة ، ومانع لك من ملايين الحسنات التي أنت ونحن أحوج ما تكون إلى هذا.
وأنا أعتبر ما أنت فيه من وساوس الشيطان ليصدك عن خير كنت تفعله، وأذكرك بقول الله تعالى: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ}، فقد أحسن الله تعالى إليك بخصال حسنة كثيرة، ووهبك مالم يهب غيرك في ميدان الدعوة، فكن مستخدما في دعوة الله تعالى، ولا تمنعنك الذنوب من أن تسير في قطار الصالحين، وتذكر قول الشافعي:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارتهم معاصي ولو كنا سواء في البضاعة
أخي؛
اسمك جميل، وهو يدل على فيوض الخير، فاجعل لك من اسمك نصيبا، وقد هيأ الله تعالى لك المجال فلا تتركه، مع ثبات رد ما أخذت من أموال، ولو على فترات زمنية حسب ما تيسر لك، وأخلص النية لله، واتقه، فإن الله تعالى وعد: {وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُۥ مَخْرَجًۭا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُۥٓ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَـٰلِغُ أَمْرِهِۦ ۚ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍۢ قَدْرًۭا}.
{وَتُوبُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ..} الآيات.
أخي، ربما أكون أقل منك في ميدان الدعوة إلى الله، فخذ النصيحة ممن هو أقل منك، ولا تنسه من صالح دعائك، ولا تنس أن تزيل عنك ما أثقل كاهلك في أسرع وقت.
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
- د. مسعود صبري