- السؤال:
أنا أدعو إلى الله عن طريق غرف المحادثة، وذلك باسم فتاةٍ لأنَّ كثيرًا من الشباب يبحثون عن الفتيات.. وقلت لنفسي فرصةٌ لأذكِّرهم بالله، ومنهم من يستجيب ويتوب إلى الله. هل يجوز لي ذلك العمل؟ |
- الجواب:
أخي داعية الشات؛
اسمح لي أن أقول لك أنَّني قد هالني سؤالك، ووقفت أمامه حائرًا متعجِّبًا مُعجبًا، تساورني خطوطٌ من صدق النيَّة في التجديد في وسائل الدعوة، وتوقفني تلك الوسائل المستحدثة التي تبتعد عن التأصيل الدعويّ لما يقوم الإنسان به في دعوة الآخرين.
ودعني أسير معك خطوةً خطوةً لمناقشة هذه الوسيلة الحديثة في الدعوة عبر الشات، بما فيه من انفتاحٍ وحريَّة، تتيح التفسُّح في القول، وإنشاء العلاقات مع الآخرين في قربٍ من الزمان، وبعدٍ من المكان، ويستطيع الإنسان من خلاله أن ينشئ مجموعاتٍ تلتقي على وحدة الفكر، مع التباين المكاني.
وأحمد إليك أوَّلاً اهتمامك بالدعوة إلى الله تعالى والتفكير فيها، فكم من الشباب ينظر تحت قدميه، لا همَّ له إلا نفسه، فحين يغرس في نفوس شباب اليوم الدعوة إلى الله، والسعي لنشر الخير بين الناس، فهذه محمدةٌ يُحمدون عليها.
غير أنِّي أحبُّ أن نتناقش سويًّا في وسيلتك التي تستخدمها في الدعوة إلى الله، والمتمثِّلة في أنَّك تقوم بدور فتاةٍ تحدِّث شبابًا، تدعوهم هذه الفتاة إلى الله تعالى، فهل سألت نفسك: إن وجدت استجابةً من الشباب.. أتعرف ما السرّ في هذا؟
إنَّه لأجل الصوت الناعم الذي يتخيَّلونه، ولأجل أنَّه من الجنس الآخر الذي يحدِّثهم، ويخاطب فيهم الغريزة والشهوة، وليس لذات الطاعة.
إنَّ من يستجيب لك إنَّما يستجيب لأجل دور الفتاة، وليست استجابةً لله، وأنت بصنيعك هذا تغرس في نفسه الشرك بالله بدلاً من أن تعلِّمه الإخلاص لله، فأفسدت من حيث تريد الإصلاح، وأعقت من حيث تريد الدفع للأمام.
إنَّ الله تعالى لم يطلب العبادة لذاتها، وإنَّما طلبها لتكون له هو سبحانه وتعالى، وقد خاطبنا بهذا المعنى: {وَمَآ أُمِرُوٓا۟ إِلَّا لِيَعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ}.. انتبه “مخلصين له الدين”، له وحده، وليس لأحدٍ سواه.
إنَّك ربَّما تنجح في أن تنقل إنسانًا من ترك طاعةٍ إلى فعلها، ولكنَّك نقلته حيث لا ثواب فيها، ولا خير فيها، لأجل أنَّها جوفاء، وما الإيمان بالمظاهر، وإنَّما الإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل.
إنَّك تريد أن تبني بيتًا ضعيفًا كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وإنَّ أوهن البيوت لبيوت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
أخبرني لو استطاع أحدٌ ممَّن تتحدَّث أن يعرف أنَّك شاب، ماذا ستكون النتيجة؟
أحسب أنَّه لن يكلِّمك، بل وسيجد في نفسه تركًا للطاعة، ولن يصدِّق أيَّ شيءٍ بعد هذا، وربَّما أحسن الظنَّ بك، غير أنَّ عبادته ستضعف.
ثمَّ إنَّك تغذي في نفسه ألا يقبل إلا من فتاة، وتنشئ في نفسه الخروج عن الفطرة من حيث أنَّ الغلبة في الاختلاط والتعامل بين الشباب فيما بينهم.
إنَّ الشرع لم يمنع أن تكون هناك علاقةٌ إيمانيَّةٌ بين المسلمين والمسلمات، وقد وصف الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بقوله: {وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ}.
وقد كانت الصحابيَّات يخرجن إلى مسجد الرسول مع الصحابة، يؤدِّين معهم الصلوات، ويحضرن دروس العلم، ويتفقَّهن في الدين.
بل أخذ جمعٌ من الصحابة عن أمَّهات المؤمنين أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا من أمور الدين، والتاريخ يسطر أنَّ عددًا من الأئمة تعلَّم على يد عالماتٍ في الدين، كالإمام ابن حزم، وابن حجر، والإمام المنذري، وغيرهم.
وتبادل الخير بين الجنسين ليس فيه ما يحجزه شرعًا، مادام في الله تعالى، ولله تعالى، وروعيت فيه الضوابط الشرعيَّة.
ربَّما يكون هناك اعتراضٌ لأجل خشية الفتنة ودرء المفسدة، وهي أمورٌ لا تُنكر، ولكنَّها تُقاس بحالتها، وليست هي القاعدة التي يتعامل بها في التعامل بين المؤمنين والمؤمنات.
لكن الكذب في دين الله حرام، والتمثيل في الدعوة أعدُّه من أكبر الخيانات، لأنَّه نوعٌ من التدليس والغش وهما من المحظورات في دين الله.
كم كان جميلاً أن تتعب وتغرس في نفوس إخوانك حبَّ الدعوة إلى الله، وحبَّ طاعة الله تعالى، والوقوف على عتباته، وهم يعلمون أنَّ داعيهم واحدٌ منهم، ولكنَّ طبيعة البشر تسعى للحصول على النتيجة في أقلِّ وقت، وبأقصر طريق، ولكن ينسون أنَّ هذا قد يكلِّفهم هدم البناء الذي سعوا في إتمامه، وأن تنقض عرى الأخوَّة التي سعوا إليها، وأن تفقد الثقة المتبادلة فيما بينهم.
فأرى أن تتعب وتجدَّ وتجتهد في أن يكون عملك في تبليغ الدعوة شاقًّا، لأنَّ الذي يجعل أساس بيته متينًا ربَّما لا يرى الناس ما لاقي من تعبٍ في تأسيس البنيان، ولكنَّ ربّ العالمين -صاحب الدعوة- مطَّلعٌ على السرائر وهو عليمٌ بذات الصدور، فسيمدُّ من سعى لدعوته بعونه وتوفيقه، فإنَّ الله ما خيَّب أمل آملٍ فيه، ممَّا قد يختصُّ بأمور الدنيا، فكيف يخيِّب من يرجو خدمته، ويسعى لنشر دعوته؟!
إنَّ الغاية لهذا العمل الذي تقوم به التجديد، غير أنَّ هذا التجديد لابدَّ له من أصولٍ يرجع إليها، ودعائم يتَّكئ عليها، وضوابط ما ينبغي مخالفتها.
وإنَّ طريق الدعوة لا يصلح فيه إلا الوضوح، أمَّا الغموض والعمل في الظلام، فما يعرفه عملٌ يستمدُّ أشعَّته من نور الله، ويستظلُّ في سيره بمعيَّة الله، وما يصلح في هذا العمل تمثيلٌ على خلق الله.
وأنا أدعوك أخي الداعية أن تصحِّح خطأك، وأن تخبر كلَّ إخوانك أنَّك شابٌّ مثلهم.. أحبَّهم، وسعى في الأخذ بأيديهم، غير أنَّ الحميَّة غلبته، فاختار وسيلةً ما كان ينبغي أن تُتَّخذ طريقًا للخير، وأذكِّرك بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري حين بعثه قاضيًا على اليمن: “ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيته اليوم أن تراجع فيه نفسك، فإنَّ الرجوع إلى الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل”.
وفي اعتذارك لإخوانك، وتصحيحك لمسارك، إمَّا أن تكبُر في أعينهم، وتكمل الطريق، وإمَّا أن تعرف أنَّ من كان معك لم يكن يعجب بالأفكار، وإنَّما هو يحبُّ الدعوة من الجنس الآخر، وهذا مرضٌ ليس هنا مجال الحديث عنه، ولكن تلك الخطوة تظهر لك حقيقة الأمر.. {ليميز الله الخبيث من الطيِّب}.
وإن وجدت نفسك عاجزًا عن أن تواجه الناس بخطئك، فانظر في نفسك، وفتِّش فيها، فإنَّها تحتاج إلى وقفة مواجهةٍ جريئة، ومعرفةٍ بأمراضها، وسعيٍ إلى علاجها قبل علاج غيرها، فمن لم يقدر على علاج نفسه، كان عن علاج غيره أعجز.
واعلم أنَّ من نوى إصلاحًا في نفسه، وفقه الله إليه: {وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُوا۟ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ}.
ونحن في انتظارك داعيةً للشباب والفتيات، ولكن باسمك وسمتك الذي خلقك الله تعالى به، غير مبدِّلٍ ولا مغيِّرٍ، بل ثابتًا واضحًا وضوح الشمس لا تخفى على الناظرين، فإن تغافل الناس على الشمس فليس هذا عيبها، ولكن عيب من رُزِق البصر وحُرِم البصيرة، أولئك الأخسرين أعمالاً، الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا.
أنار الله تعالى طريقك إليه، ووفقك للسير في رحابه، واستخدمك لطاعته، وجنَّدك لدعوته، ورزقك الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
- د. مسعود صبري