- السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. جزاكم الله كل الخير، ما رأيكم فيمن يطالب بأعادة النظر في الطريق التي يتبعها المفتون لمعرفة الحلال والحرام بدعوي أن الله قد أحكم دينه الحق في القران وأن الحديث يخالطه الظن وأن الله نهي عن اتباع الظن. أنا لاحظت من خلال معايشتي ودراستي للدين الاسلامي منذ الصغر أننا قد اهملنا القران في التعليم اذ أننا ندرسه فقط لنعرف كيف يقراء ولاكننا بالكاد ندرك المغزي. وأيضا ألاحظ أننا في عصرنا هذا نكثر الاسئلة عما نستطيع وما لا نسطيع القيام به قبل الاقدام علي أي شئ وهذا في نظري أحد النتائج للتعليم القاصر للدين. فما رأيكم فيما يدعون بالرجوع الي أصل الدين وهو القران واثبات أحكامه لتسهل للناس معيشتهم بدلا من محاولة فهم الدين من كتب كتبت منذ أزل بعيد ولعقود عديدة مما يجعل أمر تعلم الدين أمر شديد الصعوبة بعكس ما كان عليه عند نزول القران. بارك الله فيكم. |
- الجواب:
الأخ الفاضل:
شكر الله تعالى سؤالك، وهو سؤال مهم وشائك، وأقول فيه وبالله التوفيق:
أنا مع من يرى أن الأمة ابتعدت عن القرآن الكريم شيئا ليس بالقليل، وأنها أهملت فيه إهمالا ملحوظا، وأن الأخذ من القرآن في الأحكام ما عاد كما كان في سالف العهد من كونه هو المصدر الأول مع اتفاق الجميع على هذا، وأن الأمة في حاجة إلى أن تعود للقرآن أكثر مما هي عليه، وأن تحسن صلتها به أوثق مما هو موجود، وبقدر اقتراب الأمة من القرآن بقدر ما يكون عزها وشرفها، وتوفيقها في الوصول إلى الأحكام التي تعينها على مسايرة عصرها، وتحقيق حضارتها، ويضاف إلى القرآن السنة النبوية المشرفة، فهي خادمة للقرآن، تفصل مجمله، وتوضح مبهمه، وتخصص عامه، و تقيد مطلقه، وتؤكد معانيه التي جاء بها نورا و هدى للناس.
غير أنه يجب علينا ألا ننخدع بكل دعوى من أي أحد، ولو كان ظاهرها الصواب، وباطنها يجانبه الصواب، فالقول بأن الاجتهاد يجب أن يعود للقرآن وحده ضرب من العقم، وهدم لتاريخ وجهود السابقين، ومن المعلوم في كل حضارة إنسانية عامة أن يبدأ المتأخرون من حيث انتهى الأولون، ولقد اجتهد الفقهاء وبقية علماء الأمة في استظهار الأحكام الشرعية استنادا للقرآن والسنة وأدوات الاجتهاد الشرعي من الإجماع والقياس والاستحسان والاستصحاب وشرع من قبلنا وقول الصحابي والعرف وغير ذلك، وبينوا كثيرا من الأمور التي يجب أن نسلم بها، لأنهم أدوا أدوارهم فيها، وقد يكون لنا في ذلك الترجيح فيما جاء من اختلاف في آرائهم، وهذا يخص الأمور التي لا تحتاج إلى اجتهاد جديد.
أما الأمور التي لا نص فيها، وهي من الحوادث فهي محل اجتهاد للأمة، أو تلك الحوادث التي كانت موجودة في عصرهم، لكنها اختلفت في عصرنا، فليس من العقل أن نعود لما قالوه من اجتهاد فنختار واحدا مما قالوه، فالقول بأن الشورى معلمة على رأي بعض أهل العلم الآن أصبح شيئا غير معقول، ويجب على الأمة أن تتجاوز هذا في ظل تغير الحياة، فمن هو الحاكم الذي نأمن منه على مصالحنا، وأنه يرى مصلحة الأمة هي المقدمة ؟ وهل مع تعقد الحياة المدنية يحق للحاكم أن ينفرد برأي يخص الشعب كله ؟ هذا ضرب من السفه الآن.
وهل اختيار حاكم المسلمين قد يكون بأعداد أحادية كما ذكرها فقهاء المسلمين؟ هل هذا لا يقبله عقل، وهو مرفوض جملة وتفصيلا كما علا كعب من قاله في العلم، لأنهم اجتهدوا لعصرهم، ونحن حين نطالع تراث علمائنا يجب أن نفهم أقوالهم الفقهية الاجتهادية في سياقها التاريخي والمكاني، مع إدراك طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
وما جد من أحداث يجب أن نعود فيه أولا لكتاب الله تعالى، ولكن قبل العودة هل هناك إدراك لمقاصد القرآن الكريم، ومعرفة لغاياته الكبرى حتى نستلهم منه قواعد عامة، تكون لفقهائنا نبراسا يضيء لهم الطريق وقت الاجتهاد؟
إن الأمة في حاجة أن تعود إلى القرآن أولا، ككتاب هداية في المقام الأول (هدى للمتقين)، ثم كدستور وقانون ينظم الحياة، ويوضح للناس الحلال والحرام، وألا يكون الفقهاء أسرى اجتهادات قديمة، فالقرآن كما ورد في الأثر: “ولا يخلق من كثرة الرد”.
ومع الكتاب يجب استصحاب السنة والإجماع والقياس وغيرها من أدلة التشريع لنقف عند معرفة الحل والحرمة فيما يستجد من أحداث ووقائع، وأن نستفيد من تراث كل فقيه ذكي.
كما أننا يجب أن نقارن أنفسنا بغيرنا، هل الأمم تترك تراث السابقين في كل شيء؟ هذا لا يقوله عاقل! إننا نطالب فقهاءنا ألا يكون أسرى السابقين، ومع هذا لهم تميزهم واجتهادهم، وأن يكون القرآن الكريم هو المنهل الأول للأحكام، فساعتها نجمع بين الماضي والحاضر، لنبني حضارة سامية.
- د. مسعود صبري