استشاراتالدعوة

أعمل بالإعلام وأترك الدعوة

  • السؤال:
السلام عليكم..
أنا شاب ملتزم ولله الحمد ويفترض بي أن أقوم بمهام دعوية كبيرة في مسجدي، بحكم ثقافتي وقدراتي، لكن لظروف عملي حيث أعمل إعلاميًّا، فلا يتبقى لدي وقت أبدًا، حيث أعمل أحيانًا 18 ساعة في اليوم وأحيانًا أكثر، وعملي كله جهد عقلي وذهني فحينما أغادر عملي لا تكون لي القدرة على القيام بأي جهد ذهني؛ بسبب الإرهاق.

لكني أشعر بالتقصير الشديد، ولا أدري ماذا أفعل، كما أني لا أقرأ الورد اليومي غالبًا، ومقصر في الأمور الروحانية وكل ذلك بسبب عملي.. أفيدوني يرحمكم الله.

 

  • الجواب:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..

الأخ الفاضل..
كثير من الدعاة الذين يعملون في ساحة الإعلام يخطف الإعلام أبصارهم، ويأكل جهدهم، ويجعلون يضيعون كثيرًا من الواجبات المفروض أداؤها عليهم، بل كما وصفت يقصرون في أورادهم من تلاوة القرآن، والصلاة في جماعة، وحضور حلق الذكر، ودروس العلم، وغيرها..

 

  •  والذي أتصوره في هذا الموضوع بعض أمور:

 

الأمر الأول: أن الدعاة الذين يعملون في مجال الإعلام يجب عليهم دائمًا تصحيح النية، فالإعلام نوع من الجهاد إن كان إظهارًا للحق، ودعوة للصدق، فلا يضيع عدد هذه الساعات هباء منثورًا من وقت الناس، ولكن عليهم أن يصححوا نياتهم، وأن يجعلوا عملهم هذا لله تعالى، وهم يصنعون كما يقول لنا شيخنا الشيخ يوسف القرضاوي في إحدى كلماته: نصنع كأم موسى، ترضع ولدها وتأخذ أجرها. فالأخ الداعية الذي يعمل في مجال الإعلام هو يجاهد في سبيل الله تعالى، فلا يحصر نفسه أن يكون عملاً طلبًا للرزق، ولكن طلبًا للأجر، وعملاً للدعوة، وأخذًا للرزق، وكما يقول العلماء في قواعد الفقه: إن النية تقلب العادة عبادة، وهذا من جميل ديننا.

والتأكيد على هذا المعنى من أن يصحح الأخ الإعلامي نيته في عمله حتى لا يعود منهكًا من العمل، وهذا الإنهاك راجع لكثرة العمل، وراجع أيضًا إلى ضياع النية؛ لأن الأخ الداعية الذي يعمل لله لا يشعر بالتعب من العمل كما يشعر الناس؛ لأنه يعمل عند الله، ومن يعمل بصدق وإخلاص عند الله لا يجد هذا التعب الذي يجده في عمل الدنيا، وقد سمعنا عن دعاة كانوا يجوبون البلاد محاضرين وواعظين وداعين، يسافرون هنا وهناك، فإذا جنّ عليهم الظلام قاموا لله صلاة وتبتلاً ودعاء، وما ينامون من الليل إلا قليلاً، وكما وصف الله تعالى عباده الصالحين: {كَانُوا۟ قَلِيلًۭا مِّنَ ٱلَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.

ولكن في خضم الحياة ومشاغلها، وخاصة ما نعيشه في حياتنا تناسى الدعاة كثيرًا مما كانوا يفضلون به عن غيرهم، ويحيون فيه مما حرم منه غيرهم، فالإنسان روح وجسد، وكما قال القائل الحكيم:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجساد.

 

الأمر الثاني: إن الداعية يجب عليه أن يكون متوازنًا في حياته، لا يعطي شيئًا واحدًا كل شيء في حياته، حتى وإن قبل هذا أحيانًا في بعض الأوقات، كأن يكون العمل في مرحلة التأسيس، أو هناك ما يجعل الداعية ينفق كثيرًا من وقته في شيء ينجزه، غير أن هذا لا يجوز أن يكون على طول الخط، بل لا بد أن يكون هذا استثناء في حياته، وتأصيل هذا حديث البخاري في حكاية سلمان الفارسي وأبي الدرداء -رضي الله عنهما- لما رآه منشغلاً بالطاعة، وقد فرط في حق زوجته، وكان أبو الدرداء صائمًا تنفلاً، طلب سلمان منه أن يفطر، ولما كان أول الليل وأراد أبو الدرداء أن يقوم الليل، طلب منه أن ينام، فلما كانت الساعة قبل الفجر أيقظه وطلب منه الصلاة، فلما صليا قال له سلمان: “إن لربك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لنفسك عليك حقًّا”، وفي رواية “وإن لزورك عليك حقًّا” يعني زوارك، “فأعطِ كل ذي حق حقه”، فلما ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “صدق سلمان”. بل هناك من الروايات ما يرفع هذا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن كان الداعية يعمل ثماني عشرة ساعة، فكم يبقى له من اليوم ست ساعات؟ ففي أي شيء ينفقها، ثم من الطبيعي بعد هذا أن يشتكي عدم مواظبته على ورده وأذكاره، وأي وقت للدعوة ينفقه إذن؟!

إننا يجب أن نسير الحياة لا أن تسيرنا الحياة، وأن نخطط نحن لأنفسنا، لا أن نترك الأمور تقذفنا الدنيا حيث شاءت، فليس هذا من شأن المسلم، فهو يدري ماذا يصنع، وفي أي وقت يصنع، ولماذا يصنع. وهذا يعني أنه يجب عليك أن تغير حياتك، وأن يأخذ العمل منك وقتًا محددًا لا يجور على باقي الحدود، أنا لن أحدد لك وقتًا معينًا، ولكن اجلس أنت مع نفس، وأمسك ورقة وقلمًا واكتب ما يجب عليك، وكم من الوقت يأخذ كل عمل، بل كل نشاط في حياتك، ووزع الساعات على الواجبات؛ لتكون قسمة عادلة، لا قسمة ضيزى.

الأمر الثالث والأهم: وهو علاقتك بالله تعالى، وقيامك بالصلوات في جماعة في المسجد، ووردك من القرآن والأذكار، وما تغذي به روحك من صيام وقيام وغيره هذا ما لا يجب التفريط فيه بأي حال من الأحوال، مهما كان عند الداعية عمل أو غيره، فكيف يتحرك بين الناس؟ وكيف يكتب للناس أن يلتزموا بمنهج هو من أبعد الناس عنه.

يخطئ من يظن أن التأثير في الناس يكون بالكلمات والأفكار، بل هو بالإخلاص والأحوال، فبقدر قربك من الله تعالى بقدر ما يكون نجاحك في الدعوة، وبقدر ما تنهل من غذاء الروح بقدر ما تكون طاقتك للعمل.

واعلم أخي -وأحسبك من العالمين بهذا الأمر- أن بركة الله تعالى في أوقاتنا تحل علينا بخاصة إذا ما اجتهدنا في دعوته سبحانه وتعالى، أما إذا وكلنا أنفسنا لدنيانا ولعملنا فنحن كغيرنا، يعطينا الله تعالى من النتائج على قدر الأسباب، أما من عمل خادمًا عند الله تعالى بدعوة غيره، فإنه يحل عليه من بركات الله تعالى ما لا يعرفه إلا الدعاة المنفقون أوقاتهم لربهم سبحانه وتعالى.

فأول ما يجب عليك في تصحيح أمرك أنه لا يجوز لك التفريط في أورادك وغذائك الروحي، مهما كانت الظروف، ومهما كان وراءك من عمل، وإلا فلا ندعي أننا عاملون في حقل الدعوة، ومسئولون عن أعمال لدعوة الناس، فيجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ولا ندعي لأنفسنا ما ليس لنا، وقد عاب الله تعالى على أقوام بقوله “ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب”، فكن يا أخي صادقًا مع نفسك، هل أنت تعمل للدعوة، فواجب عليك العمل فيها بحق وصدق، وإلا فأنت إنسان مثل بقية الناس، لا أقول هذا تنفيرًا، ولكن أردك إلى حبك للدعوة، وأحسب أن ما أنت فيه من العمل الإعلامي قد يكون وأقول قد يكون للدعوة فيه نصيب، فلا تطفئ نور الله تعالى فيك، وأضئه بالعمل لدعوته سبحانه وتعالى، وكم لدعوة الله تعالى من أنوار وبركات، فلا نحرم أنفسنا منها، بل نتلمس نفحات ربنا في دعوته سبحانه وتعالى، فاجلس مع نفسك، ورتب أفكارك وأحوالك، واجعل في نيتك تغيير حالك، فإن بيت تعالى يناديك، فهل تستجيب له كما تستجيب لوسائل الإعلام؟

وفقك الله تعالى أخي لما يحب ويرضى، وأعادك إلى حديقة الدعوة تنهل من معينها، وتزرع في أرضها؛ لتؤتي ثمرها بإذن ربها.
ولا تنسنا من صالح دعائك. 

 

 

  • د. مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى