- السؤال:
هل يجوز لنا أن نصدر العقود بعبارة: باسم الشعب، مع العلم أننا لا نقصد تقديس الشعب، ولكن كأن الحاكم يقوم مقام الشعب في العقد، مع وجود إشكالية عدم تصديرها بالبسملة، وهل يمكن أن نضع البسملة بعدها أو قبلها؟ |
- الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
الأخ الفاضل:
في الحقيقة نعجز عن الإعجاب بك، وما ينم عنه سؤالك من فهم ذكي، واستحضار للأدلة، وهذه هي طبيعة العقلية القانونية، حين تستشرف محاولة الوصول إلى الحق، وربما لا أكون محتاجا أن أذكرك أن كثيرا من العلماء يعتبرون العقلية الفقهية، هي عقلية قانونية في المقام الأول.
وسأسعى أخي أن أناقش كل ما ذكرت من استدلالات ومحاورات بينك وبين أصحابك، سائلا الله تعالى أن يرزقنا الصواب في هذه المسألة.
إن بدء العقود بعبارة “باسم الشعب”، فيها استبعاد لمعنى التبرك، وأحسب أن هذا من الأمور المفهومة، فإن من ينطق باسم الشعب لا يتبرك بالشعب، ولا حتى يتبرك باسم الملك، ولكن فيه استدعاء لحاكمية الشعب، وهذه في الحقيقة من القضايا التي اختلف حولها الفقهاء: هل السلطة مصدر الحكم؟
فهناك من الفقهاء المعاصرين من يرفض هذا، لأن مصدر الأحكام الشرعية هو الوحي بشقيه: القرآن والسنة، ومن الفقهاء من يرون أنه لا بأس بأن تكون السلطة هي مصدر الأحكام، مادامت تستند في تشريعاتها إلى أدلة التشريع الإسلامي وقوانينه وأسسه وقواعده.
وقد رجح البعض كالدكتور وهبة الزحيلي في كتابه “الفقه الإسلامي وأدلته“ إلى أن الوحي هو مصدر التشريع، وأن السلطة هي مصدر تنفيذ هذه القوانين التشريعية المستمدة من الكتاب والسنة. فإن كان يقصد القول بـ”اسم الشعب“ أن الشعب هو مصدر السلطة التشريعية، فلا يجوز هذا، وإن كانت القوانين المستمدة من الشرع اجتهادية، فهي اجتهادية من حيث السعي لإصدار الحكم، لكنها شرعية، من حيث استنادها إلى الشرع، فالذي يجتهد ليصدر حكما لا يصدره من تلقاء نفسه، وإنما يصدره بناء على أدوات الاجتهاد من الكتاب والسنة والإجماع وبقية الأدلة الشرعية، واستصحاب مقاصد الشريعة، والعلم بالواقع المعاش، ومعرفة اللغة العربية، وغير ذلك من أدوات الاجتهاد، فهو جهد بشري يستند إلى الشرع الحنيف.
أما عن شبهة أن يكون باستصدار العقود بكلمة “باسم الشعب” فيها نوع من التأله، فبعيد جدا، فالناس، وخاصة في الدول العربية والإسلامية لا يألهون الحكام، ولو أطاعوهم في أمور كثيرة، ولكن جعل القصد من استصدار العقود بـ”باسم الشعب” أنها اعتراف رسمي صادر من مصدر السلطة في غير محله، لأن العقود والوثائق التي تصدر عن الدولة الكل يعرف أنها معترف بها، وأضحى الناس يفرقون بين ما يخرج من الجهات الخاصة، وبين ما يخرج من الدولة الحاكمة، فليس هناك حاجة لأن تتصدر العقود بكلمة “باسم الشعب”، فالغرض الموضوع لها مستوفى بلا حاجة إلى هذه الكلمة.
وفي الاستدلال الذي ذكرته من حماية حمى التوحيد، وأن الحاكم إنما هو منفذ لأمر الله، فليس هناك حاجة إذن أن ننطق باسم الشعب أو الملك، بل ننظر إلى جوهر الأمر، وهو استيفاء العقد للشروط الشرعية الموضوعة له، وألا يكون من العقود الفاسدة التي خلت من شروط صحة ونفاذ العقود.
أما عن التعابير اللفظية من الرب والعبد وغيره، فإنه كما أشرت تعرف من سياقها، فالرب إذا أطلق، أريد به الله تعالى، ولكن إن أضيف إليه شيء فلا حرج فيه، فنقول: رب المال، ورب الدار، وما إلى ذلك، فليست العبرة في النطق بالعبارة عنها من حيث المقصود بها، وإنما من حيث ما تلزم به من دلالات نابعة عنها. ومن باب القياس يذكر أن العمل لا يتقبل إلا إذا كانت النية فيه خالصة، وكان موافقا للشرع، فقد لا يراد باللفظ خروج عن الشرع، ولكنه لم يأت على الصفة الشرعية.
- ونحن لا نشكك فيمن يقول: “باسم الشعب” أنه يريد فسوقا أو كفرا، ولكننا نرى خطأ القول بهذه الكلمة.
وقولك: إن توثيق العقود لم يكن موجود منذ زمن بعيد، فأنا معه أنه لم يأخذ في القديم الشكل الموجود به الآن، لكن أصل المسألة مثبت في القرآن، ومن ذلك قوله تعالى “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى فَٱكْتُبُوهُ… وَأَشْهِدُوٓا۟ إِذَا تَبَايَعْتُمْ.” والتعبير القرآني في الشهادة لا يعني شهادة النطق فحسب، فقد يكون من معاني الشهادة شهادة التوثيق، وقد رأى بعض الفقهاء أنه يجب توثيق الدين، وذهب بعض الفقهاء إلى الإشهاد على الرجعة والطلاق، وإن رأى البعض استحباب كل هذا.
ولكن مع تعقد الحياة وزيادة التشابك في التعاملات المالية، واستحداث معاملات لم تكن موجودة، وغير ذلك أدى إلى استحداث بعض صور التوثيق، وكتابة العقود والعهود معروفة لدى المسلمين منذ العصر الراشد، ويمكن الرجوع إلى ما كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بل وما كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم من خطابات للملوك، والعهد الذي كتبه مع اليهود في المدينة، وهذا يعني أن التوثيق ليس جديدا في الفقه الإسلامي، وإن زادت صوره، فهذا شيء طبيعي.
أما تحرير العقود باسم الله، فلا يمكن أن يدعيه أحد، إلا فيما هو قطعي، ونحن نأمر الناس بالتزام الأحكام الفقهية، وهي ظنية في غالبها، لبنائها على الاجتهاد البشري، لكنه كما أشير اجتهاد بشري مبني على النصوص الشرعية، وهو غير الاجتهاد البشري المبني على العقل المحض.
وإن قيل: إن القول باستصدار العقود باسم الشعب، فمن يدري أن الشعب وافق على هذه العقود، ونحن في مجتماعاتنا من اليسير أن يستصدر الحاكم كل ما يريد، وأن الحاكم لا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر الشعب، بل كثير من حكامنا أقرب إلى الديكتاتورية، فالقول بأن العقد خارج باسم الشعب كذب وافتراء على الله ورسوله، ثم على الشعب الذي أضحى لا يملك من أمره شيئا، بل يساق حيث يريد الحكام.
أما فيما يخص التحريف بالإشكال، فإنه لا معنى له، لأن الإنسان لو أشكل الكلمات، فإن المعنى مفهوم عند كل الناس، ولن ينظر الناس إلى إشكال الكلمات بصورة خاطئة، ولكن المعنى مفهوم بعيدا عن الإشكال.
- أما عن وضع البسملة أولا، ثم اسم الشعب ثانيا، فإن هذا لا يلغي المحاذير حول كتابة الاسم، فليس وضع شيء في المرتبة الثانية مع الشيء الأول يدعو لإباحته.
والذي تطمئن إليه النفس، أنه ينهى عن كتابة عبارة “باسم الشعب“ في العقود، وكل ما قيل من محاولات لإباحتها لا تقوم دليلا شرعيا على الإباحة، وليست هناك ضرورة تدعو إلى هذه العبارة، وفي الظن أيضا أنها غير منتشرة في كثير من الدول، فلسنا بحاجة إليها، بالنظر إلى معنى كلمة “باسم الله”، فإنها تعني ابتداء العمل باسمه سبحانه وتعالى، ولا ينزل الشعب منزلة الله تعالى لا من قريب ولا من بعيد.
والله أعلم.
- د. مسعود صبري