- السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه شبهة يلقيها النصارى في الإنترنت والمنتديات أرجو منكم الاجابة عنه وشكرا لكم: جاء في سورة المائدة 5: 38 {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَا قْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.} ونحن نسأل: إذا كان القرآن وضع شريعة قطع يد السارق ألا يسيء هذا إلى الإنسانية ويجعل أصحاب الأيدي المقطوعة، حتى بعد توبتهم، عالةً على المجتمع، يعيشون فيه بمرارة ناقمين عليه؟ إن قطع يد السارق يحرمه من العمل وكسب رزقه بعرق جبينه. |
- الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فمن الحكمة أن نعلم أن الله تعالى لا يحب تعذيب خلقه، وما يشرع لهم إلا ما فيه صلاحهم، وحد السرقة روعي فيه زجر الفاعل، وحماية الأمن والأموال، وصيانة المجتمع عن أن يعيش في فوضى. ووضعت شروط لإقامة الحد، كأن يكون المسروق ذا قيمة مالية تبلغ نصابا، وأن يكون في شيء محفوظ، وألا يكون السارق محتاجا إلى ضرورة تتوقف عليها حياته، ولا سبيل له إلا السرقة، وأن يكون عاقلا، بالغا.
- وفي حكمة تشريع حد السرقة يقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله -:
استتباب الأمان في المجتمع من أجل النعم، ما أعظم أن يتحرك الإنسان كيف يشاء دون قلق على دمه أو ماله أوعرضه، عندما دعا إبراهيم ربه للبلد الذي أسسه طلب له أمرين اثنين، رزقا مكفولا وأمنا مستقرا، وقدم الأمن على الرزق، وهو يسأل الله حاجته، ”رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات.”
ولكي يشيع الأمان، ويطمئن كل إنسان شرع الله شرائع كثيرة، من أهمها حد السرقة، إن السرقة جريمة جديرة بالمطاردة والاستئصال، ووجودها مثار ضيق وقلق، فكيف إذا شاعت؟!
إن اللصوص اللئام يستولون على أموال الآخرين، فيتوسعون في إنفاقها ويبعثرونها في لذاذاتهم دون حذر لأنهم ما تعبوا في كسبها.
لا ريب أن المجتمع المحترم يجب أن يخلص من هؤلاء، وأن يرصد لهم العقوبة التي تقطع دابرهم، وتروع قريبهم وبعيدهم..
إن اليد التي تقطع هي اليد التي ظلمت المجتمع، لا اليد التي ظلمها المجتمع، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (المائدة:38-39).
والبلاد التي نفذت قطع السارق هدأت أحوالها، وسادتها طمأنينة كاملة وأغناها قطع يد واحدة عن فتح سجون كثيرة يسمن فيها المجرمون، ثم يخرجون أشد ضراوة وأكثر قساوة.
والسطو على مال الغير جريمة فيها قابلية للنماء والتجدد، وتتحول من رغبة في المال الحرام إلى جراءة على الدم الحرام، وما أيسر أن يقتل اللص من يعترض طريقه وهو يسرق، سواء أكان المعترض حارس الأمن، أو صاحب المال.
ويغلب أن يتعاون اللص مع اللص في إدراك مأربه، ومن هنا تتكون العصابات التي تقطع الطريق، أو التي تتقاسم المهام في إتمام أعمال السلب والنهب، والسجون ساحات ممهدة لدراسة هذه المعاصي وإحكام خطتها. وطبيعي أن يتضاعف العقاب في استفحال الجرم على هذا النحو.
وكثيرا ما يكون السطو المسلح على السيارات والقطارات أو على الحقول والمتاجر.
والغريب أن بعض الناس يتعاطف مع هؤلاء القطاع، ويحاول تخفيف عقوباتهم، وإني لشديد الريبة في ضمائر هؤلاء المدافعين، وأكاد أقول: ما يعطف على اللص إلا لص، ولا على القاتل إلا قاتل.
وقد حسم الإسلام اللجاجة في مجازاة أولئك العابثين، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(المائدة:33-34 ).
- وهنا ثلاثة أمور لابد من تقريرها:
أولها: أنه لابد من الحفاظ على أموال الناس، وإقامة سياج منيع حولها، ورفض اشتهاء القاعدين الحصول عليها بالأساليب المعوجة، والحدود السماوية ضمان أكيد لهذا المعنى.
ثانيها: لا مكان للرحمة بمثيري الفوضى ومهدري الحقوق، فإن ترك هؤلاء فتح لأبواب العذاب على المجتمع كله، وإغراء بالظلم وإسقاط للقيم.
ثالثها: عندما يكون الانحراف خطأ عارضا، فالشارع أول المنادين بإقالة العثرات، وتيسير المتاب، وهو القائل: أن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقاب.
لكن البون شاسع بين تعطيل الحدود، والتدقيق في إيقاعها.
وهناك من يكذب، فيقول: إن القطع أوجد جمهورا من العاطلين العاجزين عن العمل، وهذا اجتراء غريب، فإن القطع خلال أربعة عشر قرنا نفع ولم يضر، ولم يحس المجتمع بوجوده إلا على ندرة، لأن الإرهاب بالقطع صرف اللصوص عن السرقة، وأغراهم بالبحث عن كسب معقول. انتهى
ومن مقاصد الشرع الحنيف أن يحافظ على النفس والمال والعرض والدين والعقل، ولا شك أن المال من أهم مقومات الحياة. وبوصف الحفاظ عليه مقصدا شرعيا ذا قيمة كبيرة، جاء الزجر والتهديد لمن يسطو على أموال الآخرين، فكان الحد المشروع زجرا في المقام الأول حتى لا يقربه أحد. وكأن الله تعالى يخوف اللصوص والسارقين، فحين يقدم السارق على سرقة مال الغير يتذكر ذلك النداء ”والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم.”
فإن علم السارق ذلك، ارتعد ورجع، وهذا مقصود الشرع، فإن كان يعلم هذا غير أن قلبه قد أغلق، وجب إقامة الحد عليه إن بلغ الأمر إلى الحاكم المسلم، وله أن يتوب فيما بينه وبين الله، بشرط أن يرد المسروق إلى صاحبه.
وفي إقامة حد السرقة إشاعة الأمان بين الناس، وإلا انتشر الخوف والذعر، وما آمن أحد على شيء يملكه، وقد تؤدي إشاعة السرقة إلى القتل والتعدي على أرواح الناس، فإن السارق لا يهمه أن يقتل من يريد سرقته، ومن هنا جعل النبي صلى الله عليه وسلم المدافع عن ماله في مرتبة الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: ”ومن قتل دون ماله فهو شهيد.”
كما أن الإسلام لم يجعل مطلق السرقة موجبا للحد، فلابد من بلوغ النصاب، وألا يكون فاعلها محتاجا إلى الطعام والشراب.
كما أن الذي يقوم بالسرقة يجب أن تتوافر فيه خمسة شروط حتى يعتبر سارقا، وهي: أن يكون مكلفا، وأن يقصد فعل السرقة، وألا يكون مضطرا إلى أخذ مال الغير لجوع ونحوه، وأن تنتفي الجزئية بينه وبين المسروق منه، كأن يكون السارق أبا للمسروق، وألا تكون عنده شبهة في استحقاقه ما أخذ، كأن يكون له حق عند الغير، تحايل لأخذه، وإن كان هذا حراما، لكنه لا يجعل من الفعل موجبا لإقامة الحد.
كما يشترط في الشيء المسروق أن يكون في حرز، يعني في شيء محفوظ مغلق عليه بقفل ونحوه، وأن يبلغ النصاب، وهو ما يعادل ربع دينار من الذهب، وهو ما يعادل أزيد من جرام بقليل (الدينار: أربعة جرامات وربع).
ومن المقرر في الشرع أن الحدود تدرأ بالشبهات، فأيما شبهة أدخلت في عدم قيام الإنسان بالسرقة تسقط الحد عنه.
ومن عظيم ما يذكر في إقامة الحدود عموما، أن الحالات التي وقعت من إقامة الحدود في العهد النبوي وعصر الخلفاء الراشدين لم تتعد أصابع اليد، في حين أن الجريمة تحدث طبق إحصائيات وزارات الداخلية في العالم كل بعضة دقائق، وهذا يعني أن في إقامة الحدود بركة للعالمين، ولكن أكثر الناس يجهلون.
والله أعلم
- د مسعود صبري