الفتاوىالقضاءالمعاملات

القصاص من الوالد في قتل ولده

  • السؤال:
تطالعنا الجرائد اليومية أن هناك عددا من الآباء قد قتلوا أبناءهم، حتى أن أحدهم قتل أبناءه الخمسة صعقا بالكهرباء، وأن آخر قتل ابنته. ولما شهدت زوجته ضده وسجن أرسل إليها يهددها بالقتل بعد خروجه من السجن، وغير ذلك من الحوادث.. فهل يجوز القصاص من الوالد إن قتل ولده، حيث سمعنا أنه لا يقتل الوالد بولده ولو تعمد قتله؟

 

  • الجواب:

بسم الله، والحمد لله،والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

في مسألة قتل الوالد بولده ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوالد لا يقتل بولده، وخالفهم في ذلك الإمام مالك ورأى أنه يقتل به إن تعمد قتله. فإن لم يكن هناك تعمد فلا يقتل به، مع اتفاق جميع الفقهاء أن عليه الدية في ماله.

 

  • واستدل الجمهور بما يلي:

روى الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:
-قتل رجل ابنه عمدا فرفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجعل عليه مائة من الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جدعة وأربعين ثنية وقال: لا يرث القاتل ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ”لا يقتل والد بولده” لقتلتك.

ويرى جمهور الفقهاء أن عمر رضي الله عنه قد حكم بهذا الحكم في محضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فأشبه الإجماع، واستفاض الخبر، فكأنه في حكم المتواتر، أو على الأقل المتفق على العمل به.

وأخرج الترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: “لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بالولد.” انتهى.

قال الإمام الزيلعي في نصب الراية تعليقا على هذا الحديث:
قال الترمذي: حديث لا نعرفه بهذا الإسناد، إلا من حديث إسماعيل بن مسلم، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، انتهى. وأعله ابن القطان بإسماعيل بن مسلم وقال إنه ضعيف، انتهى. قلت(الزيلعي): تابعه قتادة، وسعيد بن بشير، وعبيد اللّه بن الحسن العنبري.ا.هـ

-واستدلوا بما رواه ابن ماجة وغيره عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ؛ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي مَالاً وَوَلداً. وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي. فَقَالَ: (أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ).
قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات على شرط البخاريّ.

قال الإمام الزيلعي تعليقا على الحديث:
فأضاف نفسه إليه كإضافة ماله، وإطلاق هذه الإضافة ينفي القود كما ينفي أن يقاد المولى بعبده لإطلاق إضافته إليه بلفظ يقتضي الملك في الظاهر، والأب وإن كان غير مالك لابنه في الحقيقة فإن ذلك لا يسقط استدلالنا بإطلاق الإضافة; لأن القود يسقطه الشبهة، وصحة هذه الإضافة شبهة في سقوطه. ا.هـ

-واستدلوا بقوله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا۟ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًۭا كَرِيمًۭا. وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًۭا}.

وقالوا: إن البر بالوالدين وعدم نهرهما وشتمها جاء مطلقا، فلا يخصص بحال من الأحوال، والقود والقصاص من الأب ينافي ما جاء في الآية من الأمور الواجبة تجاه الابن لأبيه.

-واستدلوا أيضا بحديث: [نهى النبي صلى الله عليه وسلم حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه، وكان مشركا محاربا لله ولرسوله، وكان مع قريش يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد].
ونهي النبي صلى الله عليه عن قتل الولد أباه وهو مشرك، فكان أولى ألا يقتل به إن قتله والده.

 

  • واستدل المالكية:

بقتل الوالد بولده إن قتله عمدا لعموم آيات القصاص التي لم يرد بها تخصيص، مثل قوله تعالى: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.” الآية:179 من سورة البقرة.
والمعنى لا قتل بعضكم بعضا، وهو نهي عام، سواء أدخلت القرابة فيه أم لا.

ورد المالكية على الجمهور من أن الأب هو سبب وجود الابن أن الابن لا يكون سببا في وجود عدمه، بأنه من المتفق عليه أن الوالد إذا زنى بابنته رجم بها، وهو سبب حياتها، وهي سبب عدمه.
كما ردوا أن كل الأحاديث المستشهد بها مطعون في صحتها، وأن فعل عمر لا دلالة فيه على القتل الخطأ، لأن الوالد قد يكون قد رمى ابنه بسيف، فيكون فيه شبهة العمد وغيره، والحدود تسقط بالشبهات.

  • قال الإمام ابن العربي المالكي:

وقد أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لا يقاد والد بولده]. وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي الله عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه، ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء المسألة مسجلة، وقالوا: لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة، فقال: إنه لو حذفه بسيف، وهذه حالة محتملة لقصد القتل وغيره، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد [إلى القتل] تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله.ا.هـ

أما الاستدلال بالآيات التي تحث على بر الوالدين، فهذه لا علاقة لها بالقصاص أو الأفعال الجنائية التي قد تؤدي إلى قتل النفس.

 

  • كما أنه يستدل لرأي المالكية من قتل الوالد بولده إن تعمد ذلك بأمور أخرى هي:

أن الإسلام أتى بمقاصد عظمى، ومن أهمها الحفاظ على النفس، فكيف يسمح الإسلام بأن يتعمد الوالد قتل ولده، وما في هذا من إزهاق للأرواح التي حرمها الله تعالى بقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً.}

فنفى الله تعالى طلبا أن يقتل المؤمن مؤمنا، ولو كان والد لولده، ولم يبح الشرع القتل إلا إذا كان هناك سبب شرعي، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ”لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة.”

وقد جاء النهي صريحا عن قتل النفس عمدا بلا ذنب أو سبب شرعي، فقال تعالى:

{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}

وإن جاءت الأحاديث تدل على أن الابن من كسب أبيه، فإن هذا أدعى أن يكون الوالد رحيما على ولده، وحينما يخرج الإنسان على فطرته التي فطره الله تعالى عليها استحق العقاب، كغيره ممن جاء العقاب له لخروجه على فطرته من السرقة أو الاغتصاب وغير ذلك، ولأن العقاب جاء زجرا للخروج على شريعة الله، ورد الناس إلى صوابها، فكان الأولى الأخذ بما يناسب روح التشريع الإسلامي في القصاص والحدود.

كما أنه مع انتشار مثل هذه الظاهر في هذه الآونة، فكان الأخذ برأي المالكية أولى، ردعا للآباء الذين خرجوا على أبوتهم، ونقضوا فطرتهم، حتى لا يحتذى بهم أمثالهم.

كما أن النظر إلى قاعدة رفع الضرر في مثل هذه الحالة، والواردة في حديث النبي صلى الله عليه وسلم “لاضرر ولا ضرار “، ترجح الأخذ بالقصاص من الوالد إن قتل ولده حتى يرفع الضرر الذي قد يشيع في المجتمع الإسلامي، بل المجتمع الإنساني.

والله أعلم

  • د مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى