- السؤال:
هل يكون للمجالس العرفية نفس حكم المحاكم، ويجب الالتزام بها؟ |
- الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالمجالس العرفية لها اعتبار شرعي، ما دام قد تصالح عليها الناس، وكانت ملتزمة بأحكام الشرع، ويمكن اعتبارها محل القضاء، في وجوده إن كان موجودا، وفي حالة غيابه، كما هو الحال في العراق مثلا.
ومما يستشهد لشرعية المجالس العرفية أن سليمان عليه السلام لم يكن قاضيا في عهد أبيه داود عليه السلام، ولكنه حكم في غير حكم، وتراضى أصحاب المخاصمة عليه، وذلك في أكثر من موقف، ومن ذلك:
ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ”بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال هاتوا السكين أشقه بينكما فقالت الصغرى يرحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى.”
وفي قصة الغنم التي حكى عنها القرآن الكريم، من أن غنما أكلت حرث رجل، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم، لأنه رأى الغنم تقاوم الغلة التي أفسدت. فلما خرج الخصمان على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم، وكانوا يدخلون إلى داود من باب آخر فقال: بم قضى بينكما نبي الله داود؟ فقالا: قضى بالغنم لصاحب الحرث. فقال لعل الحكم غير هذا انصرفا معي. فأتى أباه فقال: يا نبي الله إنك حكمت بكذا وكذا وإني رأيت ما هو أرفق بالجميع. قال: وما هو؟ قال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمونها وأصوافها، وتدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه، فإذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة، رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه. فقال داود: وفقت يا بني لا يقطع الله فهمك. وقضى بما قضى به سليمان (انظر: تفسير القرطبي).
وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من سعد بن معاذ رضي الله عنه أن يحكم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رفضوا حكمه، فرضي اليهود بحكم سعد بن معاذ، ورضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم حكما، فكان هذا دليلا على قبول الحكم إن تراضى الطرفان المتنازعان في الخصومة.
فقد روى الطبراني في الكبير: ”أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا سعد احكم بيننا وبينهم فقال سعد رضي الله تعالى عنه: أحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم ويغتنم سبيهم وتؤخذ أموالهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حكم فيهم سعد بن معاذ بحكم الله.”
وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين بني قريظة وبني النضير، ولم يكن الرسول قاضيا رسميا بينهم، ولكنهم ارتضوه حكما بينهم، فقد أخرج الطبري في تفسيره عن ابن جريج، قال: لما رأت قريظة النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم بالرجم وكانوا يخفونه في كتابهم، نهضت قريظة، فقالوا: يا محمد اقض بيننا وبين إخواننا بني النضير! وكان بينهم دم قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت النضير يتعززون على بنى قريظة ودياتهم على أنصاف ديات النضير، وكانت الدية من وسوق التمر أربعين ومئة وسق لبني النضير وسبعين وسقا لبني قريظة. فقال: “دم القرظي وفاء من دم النضيري.”
ومن أشهر قضايا الحكم العرفي تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة بين قريش في وضع الحجر الأسود مكانه بعد بناء الكعبة، فقد روى إسحاق بن راهويه عن علي رضي الله عنه في قصة بناء إبراهيم البيت قال: ”فمر عليه الدهر فانهدم، فبنته العمالقة، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته جرهم، فمر عليه الدهر فانهدم فبنته قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب، فلما أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا: نحكم بيننا أول من يخرج من هذه السكة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من خرج منها، فحكم بينهم أن يجعلوه في ثوب ثم يرفعه من كل قبيلة رجل.”
ولا يشترط في الخصومات الذهاب بها إلى المحاكم والقضاء، ولكن إن وصل الأمر إلى الحاكم وجب الحكم والقضاء، وإن ارتضى قوم حكما من العلماء أو من ذوي الرأي وحكم بينهما على أساس من شرع الله، أصبح الحكم نافذا، وذلك أن قيام القضاء في الدولة حارس لتطبيق شرع الله، ولما حرس شرع الله بغير القضاء الرسمي، فقد ثبتت العلة في الحكمين.
ومتى ارتضى الحكمان حكما، نفذ حكمه عليهما، ولو رفضه أحدهما، مادام لا يخالف الشرع.
- يقول المستشار فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث:
إذا كانت المجالس العرفية تلتزم أحكام الشريعة الإسلامية وقد رضي بها الناس فعلا؛ فإنها عادة تقوم بأعمال السلطة والقضاء، وفي هذه الحالة يجب الالتزام بقراراتها للمحافظة على النظام ومنع الجرائم.
أما إذا كانت هذه المجالس مفروضة من الاحتلال، ولا تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية؛ فإن المسلم غير مطالب بالالتزام بأحكامها، إلا إذا كانت متوافقة مع الأحكام الشرعية. انتهى
جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية:
متى أصدر الحَكَم حكمه، أصبح هذا الحكم ملزما للخصمين المتنازعين، وتعين إنفاذه دون أن يتوقف ذلك على رضا الخصمين، وعلى ذلك الفقهاء. وحكمه في ذلك كحكم القاضي. وليس للحكم أن يرجع عن حكمه.
ولكن هذا الإلزام الذي يتصف به حكم الحكم ينحصر في الخصمين فقط، ولا يتعدى إلى غيرهما، ذلك لأنه صدر بحقهما عن ولاية شرعية نشأت من اتفاقهما على اختيار الحكم للحكم فيما بينهما من نزاع وخصومة. ولا ولاية لأي منهما على غيره، فلا يسري أثر حكم الحكم على غيرهما.
وقد يرضى الخصمان بالحكم، فيعملان على تنفيذه.. وقد يرى أحدهما رفعه إلى القضاء لمصلحة يراها. أما الشافعية، والحنابلة، فعندهم أن القاضي إذا رفع إليه حكم المحكم لم ينقضه إلا بما ينقض به قضاء غيره من القضاة. أما عند الحنفية فإذا رفع حكم المحكم إلى القاضي نظر فيه، فإن وجده موافقا مذهبه أخذ به وأمضاه، لأنه لا جدوى من نقضه، ثم إبرامه. وفائدة هذا الإمضاء: أن لا يكون لقاض آخر يرى خلافه نقضه إذا رفع إليه، لأن إمضاءه بمنزلة قضائه ابتداء. أما إن وجده خلاف مذهبه أبطله، وأوجب عدم العمل بمقتضاه، وإن كان مما يختلف فيه الفقهاء. وهذا الإبطال ليس على سبيل اللزوم، بل هو على سبيل الجواز، إن شاء القاضي أبطله، وإن شاء أمضاه وأنفذه. أ.هـ
والله أعلم
- د مسعود صبري