الأسرةالزواجالعاداتالفتاوى

تعدد الزوجات: رؤية شرعية ونظرة اجتماعية

  • السؤال:
ما حكم التعدد في الإسلام، فقد اختلفت فيه الآراء كثيرا، فنريد قولا نطمئن إليه في هذه المسألة.

 

  • الجواب:

قضية تعدد الزوجات من القضايا التي نالت وما تزال تنال قدرا كبيرا من الجدل والحوار، وهي قضية ذات أبعاد اجتماعية، وكذلك شرعية في المقام الأول، لأن كثيرا ممن يفعلونها، أو يتناقشون حولها لا يغيب عنهم البعد الشرعي بأي حال من الأحوال.

ويتهم البعض البعد الشرعي بأنه السبب الأول في زيادة هذه المساحة من الفعل الاجتماعي، وربما يجعلهم يتناسون الأبعاد الأخرى، والتي أرى في الحقيقة أن هذه الأبعاد الأخرى هي الأساس والمحرك لها، وإنما جعل الشرع ضابطا للأفعال المباحة، فهو يضع حدودا فاصلة، ولكنه لا يجبر الإنسان ولا يتدخل بشكل مباشر وتفصيلي في المساحات والأبعاد الاجتماعية. فلأن يعدد الإنسان في الزواج أو لا يعدد، لا نجد نصا يوجب الفعل أو الترك.

وإنما جعل الإسلام التعدد مباحا مشروطا، وبالنظر لكثير من الأحكام الشرعية التي جعل الشرع فيها فعل الإنسان مباحا لم يضع شرطا للإباحة في كثير من هذه الأحكام، ولكنه يطالعنا في التعدد أنه مباح بشرط العدل الذي أوجبه الله تعالى:

﴿وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا۟ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُوا۟ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا۟ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُوا۟.

ولعل من المفيد الوقوف على مضمون الآية، فهي تبيح التعدد بشرط أن يعرف الإنسان من نفسه أن يكون عادلا بين  زوجاته، يقسم الحقوق والواجبات بميزان القسط، كما أنه يلفت النظر إلى بعض الأبعاد الاجتماعية للزواج الآخر، حين يقول:

﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُوا۟، وفي هذا الجزء من الآية نجد إضافة شرط آخر بعد العدل، وهو القدرة على النفقة على البيت الثاني، وربما يكون هذا الشرط ضابطا للعملية الزوجية. فليس مجرد الرغبة وحدها كافية في أداء الفعل على الوجه المباح، بل يجب العدل وكذلك يجب القدرة المادية التي تجعل الإنسان يستطيع أن يعيش مع بيتين، يقوم بوظيفته كزوج مسئول على أن يعول أولاده وزوجاته. فقد تتولد عند الإنسان الرغبة في الزواج الثاني، ولكنه قد لا يقوم بواجبه كزوج، مما يضيع الأسرتين معا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء  إثما أن يضيع من يعول.” وفي رواية: “من يقوت”، هذا يعني أن هناك أبعادا أخرى يجب أن يراعيها المسلم في زواجه مرة أخرى غير الإباحة الشرعية.

كما أنه يمكن استنباط شرط ثالث لإباحة التعدد، وهو قدرة الرجل على تربية أولاده، و حسن رعايتهم وعشرتهم، فيما يخص شئون الدين والدنيا. فليست العبرة بالكثرة، فقد بشر الرسول أن الأمة ستكون غثاء كثغاء السيل، وحين دعا أنه سيتباهى بنا أمام الأمم، فليس المقصود التباهي بذات العدد، ولكنه بالعدد الكثير الصالح الذي يحقق رسالة الله تعالى في الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته.. والرجل راع في بيته وهو مسئول عن رعيته.” [متفق عليه].

وهذه المساحة الاجتماعية والتي تعبر عن تفكير الإنسان في الزواج قبل فعله، وما يترتب عليه من أمور في حياته، يجب تفعليها بشكل أكبر، وخاصة مع علماء الاجتماع. فهذه المساحة الاجتماعية تفسر النصوص الشرعية، وتساعد على تطبيقها بشكل فعال، فلا يتحول التعدد في الزواج إلى مباح مطلقا، بل يجب أن يكون مباحا مشروطا بالعدل وبالقدرة على الإنفاق، وحسن التربية والقيام بالمسئولية الزوجية، فهذه أمور لابد من قراءتها ومعرفتها لكل من يريد أن يقدم على الزواج الآخر.

وإن كان التعدد مباحا، فإنه يجب على الإنسان أن يدرس حاله جيدا، فليس كل مباح نافعا لكل الناس، وخاصة أنه مباح مشروط. وعندي أن التعدد كالدواء، من الناس من يجب عليه تناول الدواء، ومنهم من يضره تناوله، فيحرم عليه، ومنهم من يكره في حقه، ومنهم من يستحب في حقه، مع كون الأصل فيه أنه مباح مشروط.

ولهذا يجب على من يريد أن يتعدد بما أحل الله تعالى له، أن ينظر كيف يضع المباح موضعه، حتى لا ينتج عن ذلك اتهام التشريع بأنه غير صالح، فحين يوضع الدواء لكثير من الأمراض، فيجب أن يأخذ موضعه بعد دراسة متأنية واعية.

وإن كان الزواج في أصله دون تعدد يجب فيه الدراسة الواعية، وأن يختار الإنسان الزوجة التي يتآلف معها، وتتآلف معه، ويستشعر القرب بينهما، وبالاتفاق والتفاهم الذي يحيطهما، فإن هذه الأمور يجب أن تكون موضع اهتمام أيضا فيما يخص  التعدد.

وتعدد الزواج من الأمور  التي تجنح إلى الفردية أكثر من كونها جماعية، فما ينفع لواحد قد لا يصلح لآخر.

 

  • وقد شرع الله تعالى التعدد لأمور عديدة، منها:

     1- البقاء على الأسرة بدلا من الطلاق والانفصال، فقد تكون الزوجة عقيما، والزوج يريد الولد، فبدلا من أن يطلق زوجته يبقيها، يتزوج زوجة أخرى، وقد جاء في حديث معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ” (النسائي)، والولد من حاجات الإنسان التي لا يمكن إغفالها أبدا، فهذه فطرة متأكدة عن  أي أحد، وهذا يعني أن الزواج الآخر شرع هنا للحفاظ على البيت الأول بدلا من هدمه وبناء بيت آخر.

     2- وقد يكون هناك ما يشين المرأة في جوانب من حياتها، كمرض أو عيب، وغير ذلك، فيتزوج الرجل أفضل من طلاقها، فإن في طلاقها تدميرا لحياتها، فكان الزواج حلا وسطا، وهو هنا أيضا إبقاء على البيت الأول.

     3- وقد يحقق التعدد للرجل حاجات نفسية أو عضوية لا يمكن الاستغناء عنها، فقد لا يجد الرجل التوافق النفسي مع زوجته، أو يشعر بالنفرة بينه وبينها، أو قد يكون ممن يسافر كثيرا، ولا يصبر على ترك الزوجة، وليس من الممكن أخذ زوجته معه.

     4- وقد يكون التعدد علاجا لمشكلة اجتماعية، فهو نوع من علاج ظاهرة العنوسة، فبدلا من أن تترك النساء اللاتي حرمن نعمة الزواج يعشن في الحرام، ويستمرئنه، فيكون التعدد حافظا لهن من الانحلال الأخلاقي، والانحراف عن منهج الله تعالى، وهناك الأرامل اللائي فقدن أزواجهن، أو المطلقات اللاتي انفصلن عن أزواجهن، وقد تنتشر الحاجة للزواج في بعض المجتمعات لكثرة النساء، وقد يمثل هذا عبئا اجتماعيا كبيرا، فيجيء التعدد حلا لمن تقبله، وليس هناك في الإسلام ما يجبر المرأة على أن تكون زوجة ثانية، ولكن إن هي قبلت بدلا من عنوستها، وبدلا من وحدتها، وكانت في حاجة حنان رجل ورعايته وكفايته، وكان الرجل قد بسط الله تعالى له من فضله، وعرف من نفسه العدل، وهو قادر على الوفاء بواجباته كزوج، فمن السفه منع التعدد آنذاك.

ومع كل هذا، فإنه ليس هناك ما يمكن أن يطلق عليه: أن التعدد هو الأصل، أو الإفراد هو الأصل، بل يجب أن تقاس كل حالة بحالها، فقد أفرد الرسول صلى الله عليه وسلم، حين تزوج خديجة، ومكث معها سنين عديدة، ولم يتزوج عليها، فلما توفيت، تزوج أكثر من واحدة. ومن الصحابة من عدد، ومنهم من أفرد، فالتعدد ظاهرة من حيث تطبيقها هي خاصة بكل إنسان، ينظر الأوفق لها، ولكن من حيث مشروعيتها، فهي ظاهرة عامة، ومبدأ مقرر فيه الإباحة، لما ذكر من عوامل.

وأما عن اشتراط إخبار الزوج زوجته بأنه سيتزوج غيرها، فليس هناك من النصوص الشرعية التي توجب على الزوج أن يخبر زوجته، وأنه إن لم يخبرها، طلقت منه، أو كان آثما، وإنما ترك هذا الأمر إلى مصالح الناس ومعاشهم، فقد يكون الرجل في حاجة للزواج لشيء في الزوجة أو غير ذلك، لكن لو عرفت لهدمت بيتها وأسرتها، وشردت أولادها، ولكنها لو علمت بعد الفعل، لكان أخف، وربما لا تقبل امرأة أخرى أن يتزوج الرجل عليها إلا بعلمها، وتعد هذا نوعا من الخيانة وسوء العشرة، فلا بأس بالجلوس مع الزوجة، ومناقشة الأمر، والاتفاق على الشكل المقبول عندهما، ومادام الأمر مباحا، وليس فيه تعد، فلنا أن ننظر دائما الأوفق والأصلح  لنا.

وقد تشعر الزوجة الأولى أنها وهبت حياتها لزوجها، وأنها تحملت معه سنين عديدة من التعب والمشقة، والمرأة في هذا الأمر صنفان:

الأول: المرأة العاملة، والتي كان يجبرها زوجها على أخذ راتبها، فهذه لها راتبها، سواء تزوج الرجل أم لم يتزوج، لأنه تعد على حقوقها، أما إن كانت تعمل وتضع المال هبة لبيتها، فلا بأس  أن يهبها الزوج شيئا، تطييبا لخاطرها، وتهدئة لنفسها، وليكن ذلك أيضا من باب البر في التعامل بين الزوجين، غير أنه ليس من باب الوجوب، لأن من وهب شيئا، فليس له أن يرجع عنه.

الثاني: المرأة غير العاملة، وهذه لا يحق لها أن تطالب الزوج بشيء، لأن الله تعالى قسم الوظائف بين الرجل والمرأة، فهو يخرج ليكد ويكدح، وينفق على الأسرة، وهي في بيتها تقوم بوظيفتها كأم، فليس للمرأة في مال الرجل  شيء، ولكن لا بأس أيضا إن رأى الزوج أن ينحلها نحلة، أو يهبها عطية، من باب تطييب الخاطر أيضا، أو ما يتم بينهما بالتراضي، لأنه ليس في هذا الاتفاق تعد على حدود الشرع الحنيف.

وكذلك يجب اصطحاب هدي النبي صلى الله عليه وسلم في التعدد، من رعاية الزوجات كلهن، والمحافظة على ذاتية كل واحدة منهما، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشعر الواحدة من زوجاته أنها هي أقرب الناس إلى قلبه، وأنه يحمل لها ما لا يحمل لغيرها، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يعالج ما يترتب على التعدد من غيرة نسوية، فيعالج هذه الغيرة بالإحساس أنها المتفردة، لا أن يظهر لإحداهما الحب والعطف والحنان، ويظهر للأخرى البغض والكره، لأن هذا نوع من الظلم يجب أن ينأى عنه المسلم.

وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يزور كل واحدة من زوجاته كل يوم، فيطمئن عليها، ويعرف أحوالها، ويشاركها حياتها، فيزور جميع زوجاته، ثم يبيت عند من هي ليلتها، فتشعر كل واحدة أن زوجها معها كل يوم، ولو كان معددا، فيخفف ذلك عنها ما قد ينتج عن التعدد من انفراد كل واحدة بيومها لا بليلتها، وهذا يعني أن تحرم المرأة من زوجها يوما كاملا، ولكن كان الهدي النبوي أن يكون لكل واحدة ليلة، لا يوما، فاليوم للجميع، والليلة لمن هي ليلتها.

ومن الملاحظ أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بيوت أزواجه جميعا متقاربة، غير متباعدة، اللهم إلا إحدى جواريه، وهي مارية القبطية وذلك بعد فترة من الزواج، وقرب البيوت ييسر على الزوجة أن زوجها معها إن حدث شيء تستطيع أن تجده للحاجة أو الضرورة.

  • وختاما،

فإن تعدد الزوجات يجب أن يوضع في إطار الوسطية، بين من يرفضونه على وجه العموم، وبين من يجعلونه فريضة ومنهج حياة، فغالب تشريعات الإسلام وسط بين إفراط وتفريط، كما أننا بحاجة دائمة إلى أن نقرأ التشريع الإسلامي بتطبيقه في الحياة، وأن نستشف  الأبعاد الأخرى التي ترتبط بالتشريع، كأن تكون أبعادا اجتماعية، كما هو الحال في تعدد الزوجات، أو الأبعاد الأخرى. فإن الإسلام منهج حياة، وليس منهجا نظريا، وإن النظر في الأبعاد الأخرى تكشف لنا إعجاز الإسلام في تشريعاته كلها، ومنها تعدد الزوجات.

والله أعلم

د مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى