مقالات

فقه أعوان الظالمين

في فقه أعوان الظالمين

الأصل في المجتمع المسلم أن يكون مبنيا على العدل، فالعدل هو السمة الغالبة على المجتمعات المسلمة في أصل التشريع، ومن ذلك العدل في الحكم بين الناس، كما قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، ومنه العدل في الصلح بين المتخاصمين، كما قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]، ومنه: كتابة الدين وتوثيق الحقوق بالعدل، والشهادة بالعدل، كما جاء في آية الدين: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } [البقرة: 282]، بل جاء الأمر بالعدل مطلقا في جميع نواحي الحياة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].

النهي عن الظلم
وفي مقابل الأمر بالعدل، جاءت نصوص كثيرة تحرم الظلم بكل أشكاله، وعلى كل طوائف المسلمين، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 57]، وهو دليل تحريم، لأنه – كما ذكر علماء أصول الفقه- فإن كل شيء نص القرآن على أن الله لا يحبه، فهو محرم، وتركه من مقاصد الشريعة. والظالمون محرومون من هداية الله لهم، فهم في ضلال ماداموا على ظلمهم، فحياتهم تخبط وانحدار، كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86]، والظالمون في صراع دائم فيما بينهم، وهذا من شرور أعمالهم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [الأنعام: 129].

على أن قيام الظالمين بظلمهم لا يتم لولا أعوانهم الذين يتقربون إليهم، ويعينوهم ويساعدوهم على ظلم الآخرين، وهو ما أطلق عليه العلماء ( أعوان الظلمة)، وحذروا منهم وبينوا عاقبتهم في الشريعة، ذلك أن بعض الناس يظن أن العقاب على الظالمين وحدهم دون من عاونهم لأنه مغلوب على أمرهم ما يظنون، والأمر خلاف ذلك.

لكن من هم أعوان الظالمين؟ وما صفاتهم؟ تباينت آراء العلماء في بيان أعوان الظالمين بين موسع ومضيق.

كل من عاون الظالمين

يتوسع الإمام ابن تيمية – رحمه الله- في تعريف أنواع الظالمين، فيجعلهم كل من أعان الظالم ولو بخدمة مباحة، فيقول في كتاب الإيمان لابن تيمية (ص: 55-56): ”  وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم، ولو أنهم لاق لهم دواة، أو برى لهم قلمًا، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم. وأعوانهم: هم من أزواجهم المذكورين في الآية؛ فإن المعين على البر والتقوى من أهل ذلك، والمعين على الإثم والعدوان من أهل ذلك، قال تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [النساء: 85] “. ا.هـ

ومن أخطر ما جعله ابن تيمية من أعوان الظالمين أزواجهم، فزوجات الظالمين أعوان لهم، ولو لم يشاركوهم في ظلمهم الناس.

وينقل ابن عبد الهادي عن الإمام أحمد أن أعوان الظالمين ليسوا من يخدم الظالمين، بل من يبيع لمن يخدم الظالمين، فجاء في كتاب إيضاح طرق الاستقامة في بيان أحكام الولاية والإمامة (ص: 253) : ” وقال رجلٌ للإمامِ أحمدَ: ترى أنّي من أعوان الظلمة؟ قال له: وما تصنع؟ قال: خَيَّاطُهم، فقال: لا، بل أنتَ منهم، إنّما أعوانُهم الذي يبيعُك الخيطانَ والإبرة.ا.هـ

وفي صيد الخاطر لابن الجوزي (ص: 435): ” قال السجان لأحمد بن حنبل: هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال: لا، أنت من الظلمة؛ إنما أعوان الظلمة من أعانك في أمر”.ا.هـ

وفي سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1059): ” قال أبو بكر المروذي: لما حبسوا أحمد بن حنبل في السجن جاءه السجان , فقال: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال: نعم، قال السجان: فأنا من أعوان الظلمة؟ قال له: أعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن أنفسهم.

ويؤكد أبو طالب المكي نفس المعنى ناقلا عن ابن المبارك، ففي كتاب قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد (2/ 434-435) : ” وجاء رجل إلى ابن المبارك فقال: إني خياط وربما خطت شيئاً لبعض وكلاء السلطان فماذا ترى أكون من أعوان الظلمة؟ قال: لست من أعوان الظلمة بل أنت من الظلمة إنما أعوان الظلمة من يبيع منك الإبر والخيوط.

وقال غير واحد من العلماء الشرطة الظالمة من أعوان الظالمين، قال البرزنجي في كتاب: الإشاعة لأشراط الساعة (ص: 146) و(الشُّرط)؛: هم أعوان السلطان. قال السخاوي: وهم الآن أعوان الظلمة، ويُطلق غالبًا على أقبح جماعة الوالي ونحوه، وربما توسع في إطلاقه على ظلمة الحُكام. انتهى

جامعو الأموال ظلما: ومن أعوان الظالمين من يجمعون الأموال من الناس ظلما، كما قال ابن حجر الهيتمي الشافعي في الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 299): ” من جابي المكس وكاتبه وشاهده ووازنه وكائله وغيرهم من أكبر أعوان الظلمة بل هم من الظلمة بأنفسهم، فإنهم يأخذون ما لا يستحقونه ويدفعونه لمن لا يستحقه، ولهذا لا يدخل صاحب مكس الجنة لأن لحمه ينبت من حرام.

عقاب أعوان الظالمين: ولقد جاء في الشرع الحنيف وعلى لسان أقوال العلماء من بيان العقاب ما يدفع أعوان الظالمين على ترك عونهم للظالمين، ومن ذلك:

فقد جاء في الأثر: إذا كان يوم القيامة قيل: أين الظلمة وأعوانهم؟ أو قال: وأشباههم فيجمعون في توابيت من نار، ثم يقذف بهم في النار.(الإيمان لابن تيمية (ص: 55-56).

ومن ذلك أنه يضاعف عليهم العقاب، كما جاء في تفسير الماوردي (4/ 278): قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاَ مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أنهم أعوان الظلمة. الثاني: أنهم أصحاب البدع إذا أُتبِعوا عليها. الثالث: أنهم محدِثو السنن الجائرة إذا عمل بها من بعدهم.

ومن عقابهم مناداتهم على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يعرفوا أنهم أعوان الظلمة، كما جاء في تفسير الرازي (10/ 111): روي في الحديث : «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة، فيجمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لا ق لهم دواة فيجمعون ويلقون في النار»

وفي تفسير النيسابوري (2/ 434): ” وعنه «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة؟ فيجتمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة، فيجمعون ويلقون في النار».

بل روي من الأحاديث النبوية ما يخيف من عقاب أعوان الظلمة، كما  روي في الأثر: أعوان الظلمة كلاب النار. رواه أبو نعيم عن ابن عمر وهو ضعيف.كشف الخفاء (1/ 167)

آداب وأحكام أعوان الظالمين

ويتعلق بأعوان الظالمين جملة من الآداب والأحكام، يجب مراعاتها، من ذلك:

عدم إعانتهم بأصغر الأشياء: وإشعارهم بظلمهم من خلال رفض معاونتهم، ” وقد كان من دأب العلماء ألا يعين الظالم ولو على شيء مباح، ” وكان بعض العلماء قد جلس في ديوان بعض الأمراء فكتب الأمير كتاباً فقال: ناولني الطين أختم به الكتاب، فامتنع فقال: ناولني الكتاب الذي كتبته حتى أنظر فيه، فلم يناوله، وفعل مثل ذلك سفيان الثوري مع المهدي فكان بيد المهدي درج أبيض وقد أدخل عليه الثوري فقال له: يا أبا عبد الله أعطني الدواة حتى أكتب، فقال: أخبرني بأيّ شيء تكتب، فإن كان حقّاً أعطيتك وإلاّ كنت عوناً على الظلم، وكان بمكة أمير قد أمر رجلاً أن يقوم له على الصناع في عمارة ثغر من الثغور قال: فوقع في نفسي من ذلك شيء، فسألت سفيان عن ذلك فقال: لا تفعلنّ ولا تكنّ عوناً لهم على قليل ولا كثير، فقلت: يا أبا عبد الله سور في سبيل الله تعالى للمسلمين فقال: نعم ولكن أقل ما يدخل عليك أن تحبّ بقاءهم ليوفونك أجرتك، فتكون قد أحببت من بغض الله عزّ وجلّ، وقد جاء في الخبر: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبَّ أنْ يعصي الله عزّ وجلّ. (قوت القلوب (2/ 434-435)

عدم تزويجهم: ومن الآداب والأحكام التي تتعلق بالظالمين وأعوانهم ألا يزوجهم المرء من بناته، فقد اعتبر الفقيه الحنفي السرخسي أن من شروط الزواج الكفاءة، ونقل عن الإمام محمد بن الحسن الشيباني  قوله: ” هو معتبر حتى إن الذي يسكر فيخرج فيستهزئ به الصبيان لا يكون كفئا لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وكذلك أعوان الظلمة من يستخف به منهم لا يكون كفؤا لامرأة صالحة من أهل البيوتات إلا أن يكون مهيبا يعظم في الناس” المبسوط للسرخسي (5/ 25).

التورية خشية الظلم منهم: ومنه جواز استعمال التورية خشية الوقوع في الظلم من الظالمين وأعوانهم، كما جاء في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي الشافعي: (7/ 106): ” ومن ذلك ما لو علم أنه إذا أقر كتب سجله وأخذه نحو المقدم مثلا من أعوان الظلمة فيجوز له الحلف كاذبا والتورية ولو عند الحاكم”.

عدم إمامته للمسلمين: ومن العلماء من يرى عدم جواز إمامة أعوان الظالمين للمسلمين في الصلاة، ” لأنه ظالم إن أقام بالظلم، وأما إن كان عمله لا ظلم فيه فإنه لا يمنع من إمامته” شرح زاد المستقنع، حمد بن عبد الله الحمد (7/ 133).

ترك مدحه: ومن أحكام التعامل مع أعوان الظالمين أنه لا يمدح ولا يكرم، كما ورد في الأثر:” إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق، وفي خبر آخر: من أكرم فاسقاً فكأنما أعان على هدم الإسلام.

ترك هداياهم: ومن آداب التعامل مع الظالمي وأعوانهم ألا تقبل هداياهم . قال إدريس الحداد: لما كان المحنة وصرف أحمد إلى بيته حمل إليه مال جليل وهو محتاج إلى رغيف يأكله، فرد جميع ذلك ولم يقبل منه قليلا ولا كثيرا، قال: فجعل عمه إسحاق يحسب ما رد فإذا هو خمس مائة ألف، فقال له: يا عم أراك مشغولا بحساب، فقال: قد رددت اليوم كذا وكذا، وأنت محتاج إلى حبة، فقال: يا عم لو طلبنا لم يأتنا وإنما أتانا لما تركنا. سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1059)

عدم جواز قتلهم: وإذا كانت الشريعة أوجبت بعض الأحكام والآداب التي تنفر من أعوان الظالمين، فإنها حمت دماءهم ولم تجز الاعتداء عليهم أو قتلهم، قال الشيخ ابن عبد الهادي: “فسئلت عن هذه المسألة مرتين، فأجبت في الأولى بجواب مختصر نحو الكراسة، وفي الثانية بمطول نحو الثلاثين كراساً وسميته: (الذعر في أحوال الزعر) ، ومحطهما عدم الجواز، وأنه لا يجوز لأحد إغراؤهم”.

وبين – رحمه الله – أنه لا يجوز قتل هؤلاء الزعران باعتبارهم أعوان الظالمين، لأنه لو جاز ذلك فجواز قتل الظالمين أحق وأولى. (محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (1/ 27).

إن منهج الإسلام في التعامل مع أعوان الظالمين يتمثل في أنهم كل من عاون الظالم أو اقترب منه أو خدمه في شيء، وهو منهج فيه شيء من التضييق من باب سد الذرائع، كما حذر الإسلام من عون الظالمين، وبين جملة من الآداب التي تنفر الناس منهم، لكنهم في ذات الوقت حمى أرواحهم، ومنع الاعتداء عليهم، لكنه أجاز شكايتهم ورفع الدعاوى القضائية ضدهم، حتى يأخذ القضاء مجراه، فيعاقبون من قبل السلطات الحاكمة على جرائمهم، مما فيه دفع لضررهم، وحماية للمجتمعات من الانحرافات السلوكية ضدهم.

د.مسعود صبرى.

اقرأ أيضا

الإحساس بالظلم صعب

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

Related Articles

Back to top button