من الصور المعاصرة في الزكاة، إخراج مال الزكاة في رمضان لإفطار الصائمين، سواء من خلال الشخص مباشرة، أو من خلال إعطاء المزكي الجمعيات الخيرية زكاة ماله، ويقومون بشراء الأطعمة والأشربة وإرسالها إلى الفقراء والمساكين، أو تجهيز وجبات للصائمين تكون غالبا في المساجد أو في أماكن مجهزة.
والزكاة هي أن يخرج المزكي نسبة من المال بعد بلوغ النصاب ومرور عام هجري كامل إلى من ملكهم الله تعالى، من الأصناف الثمانية الواردة في سورة التوبة، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، فبموجب وجوب الزكاة في مال الغني، ينتقل جزء الزكاة من ملكه ويملك لمن يستحقه ممن حددهم الله تعالى، وقد استنبط كثير من الفقهاء أن من شروط صحة الزكاة ( شرط التمليك)، ومعنى التمليك هنا أن الزكاة دين في رقبة الغني، يدفع هذا الدين لصاحبه وهو الله تعالى، وقد أناب الله عنه المستحقين للزكاة، فليس للمزكي أن يتصرف في الدين، أو أن يدفعه كيف شاء بضاعة أو طعاما ونحو ذلك، بل يجب عليه أن يدفع المال بتمامه لصاحبه.
وقد ناقش الفقهاء هذه المسألة ( وهي شرط التمليك في كتبهم)، وممن توسع فيها فقيه الأحناف الإمام الكاساني في كتابه: (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 39)، ومما ذكره في ذلك:
1 – أن الزكاة إخراج جزء من النصاب إلى الله تعالى، وتسليم ذلك إليه يقطع المالك يده عنه بتمليكه من الفقير وتسليمه إليه أو إلى يد من هو نائب عنه وهو المصدق والملك للفقير يثبت من الله تعالى وصاحب المال نائب عن الله تعالى في التمليك والتسليم إلى الفقير والدليل على ذلك قوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات} [التوبة: 104]، وقول النبي – ﷺ – «الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في كف الفقير» وقد أمر الله تعالى الملاك بإيتاء الزكاة لقوله عزو جل: {وآتوا الزكاة} [البقرة: 43] والإيتاء هو التمليك؛ ولذا سمى الله تعالى الزكاة صدقة بقوله عز وجل {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة: 60] والتصدق تمليك فيصير المالك مخرجا قدر الزكاة إلى الله تعالى بمقتضى التمليك سابقا عليه؛
2 – أن عند التسليم إلى الفقير تنقطع نسبة قدر الزكاة عنه بالكلية وتصير خالصة لله تعالى ويكون معنى القربة في الإخراج إلى الله تعالى بإبطال ملكه عنه لا في التمليك من الفقير بل التمليك من الله تعالى في الحقيقة وصاحب المال نائب عن الله تعالى غير أن عند أبي حنيفة الركن هو إخراج جزء من النصاب من حيث المعنى دون الصورة وعندهما صورة ومعنى لكن يجوز إقامة الغير مقامه من حيث المعنى.
3 – ويبطل اعتبار الصورة بإذن صاحب الحق وهو الله تعالى على ما بينا فيما تقدم، وبينا اختلاف المشايخ في السوائم على قول أبي حنيفة وعلى هذا يخرج صرف الزكاة إلى وجوه البر من بناء المساجد، والرباطات والسقايات، وإصلاح القناطر، وتكفين الموتى ودفنهم أنه لا يجوز؛ لأنه لم يوجد التمليك أصلا.
4 – وكذلك إذا اشترى بالزكاة طعاما فأطعم الفقراء غداء وعشاء ولم يدفع عين الطعام إليهم لا يجوز لعدم التمليك.
5 – وكذا لو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة؛ لأنه لم يوجد التمليك من الفقير لعدم قبضه، ولو قضى دين حي فقير إن قضى بغير أمره لم يجز؛ لأنه لم يوجد التمليك من الفقير لعدم قبضه وإن كان بأمره يجوز عن الزكاة لوجود التمليك من الفقير؛ لأنه لما أمره به صار وكيلا عنه في القبض فصار كأن الفقير قبض الصدقة بنفسه وملكه من الغريم.
وعن إخراج مال الزكاة في رمضان، وفي مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، لشيخي زاده (1/ 222): ” أنه لا تدفع الزكاة لبناء مسجد؛ لأن التمليك شرط فيها ولم يوجد وكذا بناء القناطير وإصلاح الطرقات وكري الأنهار والحج والجهاد وكل ما لا يتملك فيه،.. (أو تكفين ميت) لعدم التمليك (أو قضاء دينه).ا.هـ
وقال الزيلعي في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (1/ 305): ” لأن الزكاة إنما تتم التمليك”.
وقال الماوردي الشافعي في الحاوي الكبير (8/ 479): ” إنه أضاف الصدقة إلى الأصناف الثمانية بـ(لا) التمليك وعطف بعضهم على بعض بواو التشريك، وكلما يصح أن يملك إذا أضيف إلى من يصح أن يملك اقتضت الإضافة ثبوت الملك كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو”.
وقال ابن قدامة الحنبلي في الكافي في فقه الإمام أحمد (1/ 423): ” فلا يجوز صرفها إلى غيرهم من بناء مساجد أو إصلاح طريق أو كفن ميت؛ لأن الله تعالى خصهم بها بقوله: إنما وهي للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه. ولا يجب تعميمهم بها”.
وقال الدكتور وهبة الزحيلي في الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي (3/ 1812)
” يشترط التمليك لصحة أداء الزكاة بأن تعطى للمستحقين، فلا يكفي فيها الإباحة أو الإطعام إلا بطريق التمليك، ولا تصرف عند الحنفية إلى مجنون وصبي غير مراهق (مميز) إلا إذا قبض لهما من يجوز له قبضه كالأب والوصي وغيرهما. وذلك لقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} [البقرة:43/ 2] والإيتاء هو التمليك، وسمى الله تعالى الزكاة صدقة بقوله عز وجل: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة:60/ 9] والتصدق تمليك، واللام في كلمة «للفقراء» ـ كما قال الشافعية ـ لام التمليك، كما يقال: «هذا المال لزيد».
وجاء في فتاوى دار الإفتاء المصرية حين سئلت عن إخراج مال الزكاة في رمضان لإفطار الصائمين فيما يعرف بـ( موائد الرحمن)، فأجابت:
فإفطار الصائم ومنه موائد الإفطار المنتشرة في بلادنا -والتي يطلق عليها “موائد الرحمن”- وإن كانت مظهرًا مشرقًا من مظاهر الخير والتكافل بين المسلمين، لكنها لما كانت تجمعُ الفقيرَ والغني فإنها لا تصح مِن الزكاة؛ لأن الله تعالى قد حدد مصارف الزكاة في قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:60]، فجعل في صدارتها الفقراء والمساكين؛ لبيان أولويتهم في استحقاق الزكاة، وأن الأصل فيها كفايتُهم وإقامةُ حياتِهم ومعاشهم، ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث إرسال معاذ رضي الله عنه إلى اليمن: «فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» متفق عليه، وعبرت الآية باللام المفيدة للمِلك؛ ولذلك اشترط جمهور الفقهاء فيها التمليك؛ فأوجبوا تمليكها للفقير أو المسكين حتى ينفقها في حاجته التي هو أدرى بها من غيره، وإنما أجاز بعض العلماء إخراجها في صورة عينية عند تحقق المصلحة بمعرفة حاجة الفقير وتلبية متطلباته.ا.هـ
الأمر الثاني: أن زكاة كل مال تخرج من جنسه، بخلاف عروض التجارة على الخلاف فيها.
بل ناقش العلماء مسألة هل يجوز إخراج الذهب مكان الفضة والعكس، رغم أنهما نقدان، وحكوا الخلاف فيها بين القول بالمنع والقول بالجواز.
قال ابن قدامة في المغني لابن قدامة (3/ 41)، بعدما ساق الخلاف ورجح إخراج الذهب عن الفضة والعكس؛ لما بينهما من الاشتراك: ” بخلاف سائر الأجناس والأنواع، مما تجب فيه الزكاة، فإن لكل جنس مقصودا مختصا به، لا يحصل من الجنس الآخر، وكذلك أنواعها، فلا يحصل بإخراج غير الواجب من الحكمة ما يحصل بإخراج الواجب، وها هنا المقصود حاصل، فوجب إجزاؤه، إذ لا فائدة باختصاص الإجزاء بعين، مع مساواة غيرها لها في الحكمة
…. ثم قال: ” وعلى هذا لا يجوز الإبدال في موضع يلحق الفقير ضرر، مثل أن يدفع إليه ما لا ينفق عوضا عما ينفق؛ لأنه إذا لم يجز إخراج أحد النوعين عن الآخر مع الضرر، فمع غيره أولى. وإن اختار الدفع من الجنس، واختار الفقير الأخذ من غيره؛ لضرر يلحقه في أخذ الجنس، لم يلزم المالك إجابته؛ لأنه إذا أدى ما فرض عليه، لم يكلف سواه. “.
بل صرح ابن قدامة في المغني (3/ 34) أنه يمنع إخراج غير جنس المال، فقال : ” فإن الزكاة تؤخذ من كل جنس على قدر ما يخصه، ولا يؤخذ من جنس عن غيره، فإننا إذا قلنا في أنواع الجنس: يؤخذ من كل نوع ما يخصه. فأولى أن يعتد ذلك في الأجناس المختلفة، مع تفاوت مقاصدها، إلا الذهب والفضة، فإن في إخراج أحدهما عن الآخر روايتين”.
توزيع الطعام على الفقراء والمساكين في رمضان:
على أن توزيع الطعام النيئ على الفقراء والمساكين في رمضان فيه وجه جواز عند بعض الفقهاء، كما قال الكاساني:” وكذلك إذا اشترى بالزكاة طعاما فأطعم الفقراء غداء وعشاء ولم يدفع عين الطعام إليهم لا يجوز لعدم التمليك. (بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 39).
وعليه، فإخراج زكاة المال إلى الجمعيات الخيرية وإرسال ما يسمى ( شنطة رمضان) بما تحتوي على المواد الغذائية ونحوها له وجه من الجواز على مذهب الأحناف، وإن كان الأصل إخراج المال بعينه إلى الفقراء والمساكين؛ حتى يتم التمليك، وليس للإنسان أن يتخير للفقير ما يريده.
د.مسعود صبرى.