الفتاوىفقهيةقضايا معاصرة

الواجب في تغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم عند نزول الوباء والكوارث كالفيضانات والزلازل

ورد إلى دار الإفتاء الليبية السؤال التالي:

في ليلة الاثنين الموافق 11 – 09 – 2023م، حصل طوفان بمدينة درنة أدى إلى انهيار سد المدينة، وجرف الأشجار والأبنية في الشوارع وأتى عليها من قواعدها، فمات بسببه آلاف الناس، فما الواجبُ تجاهَ الموتى الذين قضوا نحبهم في هذا الفيضانِ، من حيثُ تغسيلُهم وتكفينُهم والصلاة عليهم، علمًا أنَّ عدد المغسلين يقلّ أحيانًا، ومن ضمن الموتى نساءٌ، ولا يوجد من يغسلهنَّ من النساء؟

الجواب:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فقد بشّر النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ مَن ماتَ في غرقٍ أو هدٍم معدودٌ في الشهداء، فقال عليه الصلاة والسلام: (الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ) وذكر منهم: (‌وَالْغَرِيقُ ‌شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْهَدْمِ شَهِيدٌ)[النسائي: 1846].

غير أنّ الحكم لهم بوصفِ الشهادة إنّما هو من حيث الثوابُ، الذي يتحصّلون عليه في الآخرة، أمَّا في الدُّنيا فلهم أحكام سائر الموتى؛ من التغسيل والتكفين والصلاة عليهم، قال ابن الحاجب رحمه الله: “وأَمَّا الْمَطْعُونُ والْغَرِيقُ … وذُو الْهَدْمِ … فَكَغَيْرِهِمْ وإِنْ كَانُوا شُهَدَاءَ، قال خليل رحمه الله: أَيْ يُغسَّلُونَ وَيُكَفّنُونَ وَهْوَ ظَاهِرٌ”[التوضيح:2/138].

وإذا نزلت بالنَّاس فاجعةٌ كثُر فيها الموتى، وتعذَّر على النَّاس تغسيلُهم بالصورة المعهودة؛ لكثرة أعداد الموتى مع قلة المغسِّلين، أو خوفًا من تغير أجسادهم بتسلّخ ونحوه، اكتُفِي بصبّ الماء عليهم دون دَلكٍ، بواسطة خراطيم المياه، أو مِن مضخات السيارات المحمّلة بالماء، على أن يكون ذلك برفق، حتى لا تقطع أجسادهم، وهذا الحكم عند العجز يُعمل مع الموتى رجالا ونساء، على حدٍّ سواء.

فإن لم يمكن ذلك يُمِّمُوا، فإن تعذر ذلك دُفنوا دونَ تغسيلٍ، قال الخرشي رحمه الله: “… وَمَنْ تَهَشَّمَ تَحْتَ الْهَدَمِ وَشِبْهُهُمْ، إنْ أَمْكَنَ تَغْسِيلُهُمْ غُسِّلُوا وَإِلَّا صُبَّ عَلَيْهِمْ الْمَاءُ مِنْ غَيْرِ دلكٍ إنْ أَمْكَنَ، فَإِنْ زَادَ أَمْرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ خُشِيَ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ تَزَلُّعٌ أَوْ تَقَطُّعٌ يُمِّمُوا” [شرح مختصر خليل:2/117]، قال الدردير رحمه الله: “(وَ) جَازَ (عَدَمُ الدَّلْكِ ‌لِكَثْرَةِ ‌الْمَوْتَى) كَثْرَةً تُوجِبُ الْمَشَقَّةَ أَيْ الْفَادِحَةَ فِيمَا يَظْهَرُ، وَكَذَا عَدَمُ الْغُسْلِ وَيُيَمَّمُ مَنْ أَمْكَنَ تَيَمُّمُهُ مِنْهُمْ وَإِلَّا صُلِّيَ عَلَيْهِمْ بِلَا غُسْلٍ وَتَيَمُّمٍ عَلَى الْأَصَحِّ” [الشرح الكبير: 1/420].

وقال ابن حبيب رحمه الله: “ولا بَأْسَ عِندَ الوَبَاءِ، وَمَا يَشتَدُّ عَلَى النّاسِ مِنْ غَسْلِ المَوْتَى لِكَثْرَتِهِمْ أَنْ يُجْتَزأَ مِنْهُ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ، بِغَيرِ وُضوءٍ، وَيُصبُّ المَاءُ عَليهِمْ صَبًّا، وَلَوْ نَزَلَ الأَمرُ ‌الفَظيعُ، فَكثُرَ فِيهِ المَوتَى جِدًّا… فَلا بَأْسَ أَنْ يُقْبَروا بِغيرِ غَسلٍ إِذَا لَم يُوجَد مَن يُغسِّلُهُمْ” [النوادر والزيادات: 1/548]، قال المازري رحمه الله: “وَهَذَا الَّذي قَالَهُ ابنُ حَبِيبٍ صَحِيحٌ إِذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُغَسّلُ؛ لِأَنَّ الوَاجِبَ المُتَّفَقَ عَلَيْهِ يَسْقُطُ بِالعَجْزِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِهَذَا المُخْتَلَفِ فِيهِ” [شرح التلقين: 1/1119].

وأمّا فيما يتعلّق بالكفنِ، فإنّ القدر الواجبَ منه هو ما يستر جميع جسد الميّت، على أيّ وجهٍ كانَ، سواء كان الكفنُ ثوبًا من القماش أو غيره، جديدًا أو قديمًا، أبيض أو غير ذلك، فينبغي للناس ألّا يضيّقوا على أنفسهم بالتقيّد بالهيئات المستحبّة في تكفين الموتى، إذا كان ذلك يوقعُهم في الحرج.

ويجوز عند الضرورة أن يكفّن عدد من الأموات في ثوبٍ واحدٍ، ويدفنوا في قبرٍ واحد، ولو كانوا رجالًا ونساء؛ لما في الصحيح عن جابر رضي الله عنه: (أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم  كَانَ يَجْمَعُ بَيَنَ الرَّجُلَينِ مِنَ قَتْلَى أُحُدٍ) [البخاري: 1278]، وفي حديثِ هشام بن عامر رضي الله عنه قال: شُكِيَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجراحات يومَ أحد، فقال: (احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا، وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا) [الترمذي:1713]، قال النفراوي رحمه الله: “وَكَمَا يَجُوزُ جَمْعُ الْأَمْوَاتِ فِي الْقَبْرِ لِلضَّرُورَةِ وَلَوْ أَجَانِبَ، يَجُوزُ جَمْعُهُمْ فِي كَفَنٍ لِلضَّرُورَةِ” [الفواكه الدواني:1/299]، وقال الدسوقي رحمه الله: “سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْوَاتُ الَّذِينَ جُمِعُوا لِلضَّرُورَةِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا أَوْ بَعْضُهُمْ ذُكُورًا وَالْبَعْضُ إنَاثًا هَذَا إذَا كَانُوا أَقَارِبَ بَلْ وَلَوْ أَجَانِبَ” [حاشية الدسوقي: 1/422]، والجمع بين الرجال والنساء في الكفن والقبر جائزٌ، إذا دعت الضرورةُ إليه، فإن أمكنَ الفصلُ بين الرجال والنساء في الكفن والقبر كانَ أولى، والله أعلم.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

دار الإفتاء الليبية

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى