السياسةالفتاوى

إقصاء علماء الدين عن العمل السياسي

  • السؤال:
نشر في الصحف والمجلات اقتراح المنظمة الإفريقية للحوار بين الأديان، يقول بإقصاء رجال الدين عن العمل السياسي، حتى لا يكونوا أبواق للحكام، ولا أن يتخذوا لأنفسهم أحزابا ذات طابع ديني، فما رأي علماء الشريعة في هذا؟

 

  • الجواب:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أنشأ الرسول صلى الله عليه وسلم دولة لها سيادة ودستور، ومواثيق وعهود، وفيها وزراء، ومستشارون، واهتمام بجانب السياسة الشرعية فيما يتعلق بعلاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفراء، وكان هناك اهتمام بالجانب الاجتماعي، والجانب الثقافي، والجانب الاقتصادي، وغيرها من جوانب الحياة.

وكذلك كان حال الخلفاء من بعده، وقد زادت رقعة الدولة، فأدخلوا الدواوين، وأنشئوا بيت المال، وكان لهم اهتمام بجانب المرافق العامة في الدولة، وتحقيق الأمن العام وغير ذلك مما وافق طبيعة الدولة آنذاك.

ومن المفترض أن يكون الخليفة أو الحاكم عالما بشرع الله تعالى، يعرف الحلال والحرام، وفقه القرآن والسنة، ومقاصد الشرع، ومع هذا، فقد كان للخليفة علماء مقربون، ووزراء مشيرون، فكان علماء الدين في الماضي يذكرونه بالله تعالى، ويرشدونه إلى طريق الصواب.

وفي زماننا قل من الحكام من يشير عالما، أو يقربه إليه، وربما احتاج منه إلى فتوى تيسير، ليس وفق منهج الله، بل وفق مايحب هواه.

  • ومن الواجب شرعا أن يعود علماء الإسلام إلى مكانتهم في دولتهم، فإن الفصل بين قادة الفكر، وهم علماء الإسلام، وبين قادة الحكم أفسد على الناس دينهم ودنياهم. فلابد من تلاحم الطرفين.

أما القول بأن يكون علماء الإسلام بعيدين على الحياة، فهذا ضرب من إقصاء الإسلام عن أن يكون دينا محركا، بل يراد له أن يكون دينا أثريا، يتبرك به في المناسبات، مما يعني تعطيل شرع الله، وقد سمى الله تعالى ذلك ظلما وكفرا وفسقا.

وهذا الفصل الذي تدعو إليه بعض المؤسسات، إنما هو تأثر بعقائد غير المسلمين، من النصرانية وغيرها، وخشية أن يكون هناك رجال دين لهم الكلمة والسطوة، حتى على الحكام، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة في الحياة، وليس هذا في الحقيقة منهج الإسلام الذي طالب المسلمين قائلا: ”فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.” ففي شئون الدين البحتة، هناك علماء الشريعة، وفي شئون الحياة، هناك العلماء المتخصصون.

وإن كان علماء الإسلام يبيحون قيام أحزاب معارضة بناءة، فليس في الإسلام ما يقصرها على قوم دون قوم، بل يكون قيام الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية أوجب في حقهم، لأنه من السعي لتطبيق شرع الله، وهو من الواجبات.

أما اتخاذ العلماء أبواق للحكام، فهذا لا يجوز بحال، لأن هذا ينافي دور العلماء، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يكون العلماء مطية للحكام الظالمين، بل جعل الجهر بالحق من الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: ”أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.”

 

  • و يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي:

لا يوجد في الإسلام شيء اسمه رجال الدين، بمعنى رجل كهنوتي، إنما يوجد عالم دين تخصص في دراسة الدين، وأي مسلم من حقه أن يدرس الدين حتى من غير الطريق الرسمي بمعنى أن يتعلم عن طريق المشايخ والكتب وإن لم يدخل الأزهر ولم يدخل الجامعة الإسلامية فهذا باب مفتوح للجميع، فعلماء الدين غير رجال الكهنوت عند الآخرين، هؤلاء من حقهم أن يكون لهم دورهم، وأن يكون لهم إسهامهم في توجيه الناس وفي القضايا العامة ولا يجوز أن يعزلوا عن السياسة، لأنهم تعلموا الدين وتفقهوا فيه.
و الإسلام الحق ـ كما شرعه الله ـ لا يمكن أن يكون إلا سياسيًا، وإذا جردت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينًا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا.

إن الإسلام له قواعده وأحكامه وتوجيهاته: في سياسة التعليم، وسياسة الإعلام وسياسة التشريع، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وسياسة السلم، وسياسة الحرب، وكل ما يؤثر في الحياة، ولا يقبل أن يكون صفرًا على الشمال، أو يكون خادمًا لفلسفات أو أيديولوجيات أخرى، بل يأبى إلا أن يكون هو السيد والقائد والمتبوع والمخدوم.

بل هو لا يقبل أن تقسم الحياة بينه وبين سيد آخر، يقاسمه التوجيه أو التشريع ولا يرضى المقولة التي تنسب إلى المسيح عليه السلام: ”أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله.”
فإن فلسفته تقوم على أن قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد، الذي له من في السماوات ومن في الأرض، وما في السماوات وما في الأرض ملكًا وملكًا.

وشخصية المسلم ـ كما كونها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته ـ لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له.

فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يعبر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين، وعامتهم، وهي التي صح في الحديث اعتبارها الدين كله، وقد يعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خسر الدنيا والآخرة، كما وضحت ذلك”سورة العصر.انتهى

  • ويقول المستشار فيصل مولوي –نائب رئيس المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء-:

عدم خلط الدين بالسياسة بدعة غربية، بدأها الأوروبيون عندما رفعوا الدعوة إلى العلمانية، ورفضوا بقاء الدولة عندهم خاضعة للدين المسيحي. ثم لما هزم العثمانيون في الحرب العالمية الأولى، ووقعت البلاد الإسلامية تحت الحكم الغربي الاستعماري، انتشرت في بلادنا الدعوة العلمانية، وقامت كثير من الأحزاب الوطنية والقومية والاشتراكية على أساسها. وتأثر كثير من المسلمين بهذه الدعوة.

فالدين عندنا هو الإسلام وهو يعني تسليم أمورنا كلها لله تعالى، سواء على نطاق الفرد أو الجماعة أو الأمة. وإذا سلمنا بعض أمورنا لله، وسلمنا الباقي لغيره بإرادتنا فذلك نوع من الشرك والعياذ بالله. استمع لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} فحياة المسلم يجب أن تكون كلها لله، خاضعة لدينه، وإذا كان بعضها لغيره فهو شرك بنص القرآن.

فالسياسة جزء من الدين، ولا يجوز أن تنفصل عنه. وحين نفصل معنى ذلك أن المسلم يخضع لحكم غير إسلامي يحل الحرام ويحرم الحلال وينشر الفساد، فهل يجوز له أن يقول أنا لا أتدخل في ذلك حتى لا أخلط الدين بالسياسة. وإذاً فأين هي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وأين فريضة الحكم بما أنزل الله؟ وإذا كان المسلم لا يستطيع إزالة المنكر بسبب ظرف ضاغط، فإن هذا لا يسقط عنه واجب إنكاره باللسان، وحتى لو لم يستطع الإنكار باللسان فيجب عليه الإنكار بالقلب على الأقل أي أنه لا يعتقد بجواز فصل الدين عن السياسة، لأنه ”ليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان” كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

  • ويقول الشيخ عطية صقر من كبار علماء الأزهر:

السياسة في أصلها فن الإدارة والرعاية، وأُطْلِقَتْ عُرْفًا عَلى سياسة الحاكم لرعيته، عن طريق الأجهزة المختلفة، التشريعية منها والتنفيذية والقضائية وغيرها وما يستلزم ذلك من دستور وقوانين، ومجالس وإدارات وما إليها.

والدين الإسلامي فيه كل ذلك، وكتب الفقه العام عقدت أبوابًا وفصولاً لمعالجتها كلها. وهي مملوءة بالأدلة والنصوص والآراء الاجتهادية، بل وضعت كتب خاصة بنظام الحكم من أقدمها كتاب “الأحكام السلطانية والولايات الدينية” للماوردي المتوفي سنة 450 هـ و”الأحكام السلطانية” للقاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي، و”السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والراعية” لابن تيمية، والدولة الإسلامية قامت على أساس هذا الدِّين بنظامه الشامل لأمور الدنيا والآخرة على السواء، وكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُبَلِّغًا للوحي وَمُشَرِّعًا وإمامًا في الصلاة وقاضيًا بين الناس وقائدًا للجيش، والخلفاء من بعده كانوا كذلك، وسَارَ الحكام على هذه السياسة بأنفسهم أو بمن ينوبون عنهم، وبهذا التكامل في التشريع والدِّقة في التطبيق كانوا أعظم دولةٍ خَطَبَتْ ودَّها الدول الأخرى، وَقَبَسَتْ من علومها وحضارتها ما طورت به حياتها حتى بلغت شأوًا بعيدًا في القوة.

ذلك كلُّه في الوقت الذي لم يقُمْ فيه دِينٌ غَيْر الْإِسلامِ بِمَا قَامَ بِه مِنْ تَطَوُّرٍ وَنُهُوضٍ، لما توارثه أهل هذه الأديان من فصل بين الدين والسياسة، وإعطاء ما لقيْصر لِقَيْصَر وَمَا للهِ للهِ، ومن احتكار بعض رجالها لسلطة التشريع، ورقابة التنفيذ بما لا يخرج عن دائرة الكتاب المُقدس، الذي يرغب في الزهد والانزواء عن الدنيا، الأمر الذي جعل بعض المُتحررين المتأثرين بثقافة المسلمين وحضارتهم يثورون على الأوضاع التي يعيشون في ظِلها مُقيدة أفكارهم، مغلولة أيديهم، فكانت النهضة التي فصلت الدِّين عن الدولة، وانطلقت أوروبا إلى العالم الواسع تصول فيه وتجول بحرية كاملة في كل الميادين وَسَيْطَرَ عليها هذا الشعار “لَا سِيَاسَةَ فِي الدِّينِ وَلَا دِينَ فِي السَّيَاسَةِ” ونقله بعض الشرقيين إلى بلادهم، وحاولوا أن يطبقوه لينهضوا كما نهض هؤلاء، على جهلٍ منهم، بأنَّ هذا الشعار أَمْلَتهُ ظروف من نَادَوا به، والجو الديني الذي كانوا يعيشون فيه، وعدم إسعاف تشريعاتهم الدِّينية بتحقيق سعادتهم، وكذلك على جهلٍ ممن قَلَّدُوهُمْ بأنَّ الدِّينَ الإسْلامِي لَيْسَ كالدِّين الَّذي ثَارُوا علَيْهِ، قاصِرًا عَن الْوَفَاءِ بمطالبهم بل هو دينٌ كامل التشريع مثالي في كلِّ ما وَضَعَهُ من قَوَانين لإسْعَادِ النَّاس في دُنْياهُمْ وأخْرَاهُم.

ومن هنا سمعنا هذه المقولة “لا سياسة في الدِّين ولا دينَ في السياسة” يرددها كثير من الكُتَّاب والسَّاسَة والمُنادين بالإصلاح. وهو شعار لا يصلح في المجتمعات التي تدين بالإسلام وقد قرَّر كُتَّاب الغربِ أنَّ الإسلامَ دينٌ وَدَوْلَة، فقال “شَاخت” في دائرة معارف العلوم الاجتماعية: ليس الإسلام مجرد دين، بل إنه نظام فكري اجتماعي يشمل الدين والدنيا جميعًا.
هذا، وإذا أردنا بالسياسة فن الإدارة والحُكم، الذي يحقق للمجتمع خيري الدنيا والآخرة.

وكذلك تكون صادقةً إذا أريد بها: عدم استغلال الدِّين للوصول إلى الحُكم، فإذا تحقق ذلك طرح الدِّين؛ لأنه أدى مهمته وانتهى. فذلك نِفَاق لا يرضاه أي دين.

أما إذا أُريد بهذا الشِّعَارِ حِرْمَان المُتدينين من ممارسة حقوقهم السياسية، فذلك مرفوض، وكذلك إذا أُريد به عدم تقيد نظام الحُكم بمبادئ الدِّين فهو مرفوض أيضًا.

والله أعلم

  • د مسعود صبري

هل كانت المقال مفيداً ؟
نعملا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى